الأدب الإغريقي
الأدب الإغريقي
ولسْنا ندري من أمر هوميروس في حياته الخاصة شيئًا؛ إذ إنه لمَّا أتيح لمؤرِّخي اليونان ونُقَّادهم في القرنَين الخامس والرابع قبل الميلاد أن يتعقَّبوا أشخاص التاريخ ويقفوا على أصولهم ليرووا صحيح أخبارهم، كان هوميروس بين أيديهم أسطورةً يعجزون عن تحقيقها كما هو اليوم أسطورة عند الباحث الحديث، فلم يكن اليونان في عصر أفلاطون وأرسطو يعلمون عن شعرائهم السابقين ما نعلمه نحن عن شعرائنا، لأن شعراءنا قريبو العهد بنا، وإذا تجاوزْنا الأوَّلين فقد كانوا يعيشون في عهد الكتابة، وفي خمسة القرون الأخيرة كانوا يعيشون في عصور مطبعةٍ ونشر. أما اليونان في عصر بركليز فلم يكن لهم بالطباعة عهد، وكان عليهم أن يحفظوا أشعار هوميروس عن ظهر قلب. والأرجح أنَّ تلك الأشعار لم تتَّخذ وضعَها وترتيبها كما هي اليوم إلا في القرن السادس قبل الميلاد.
وبعدُ، فما الإلياذة؟ وما الأوذيسة؟
يُحدِّثنا الشاعر في السطور الأولى من ملحمته أن الجيش اليوناني الرابض أمام طروادة، قضى عليه الآلهة أن تفتِك به الأمراض، ففشا فيه الطاعون، فلمَّا سُئل العرَّاف عن تعليل هذا القضاء، وأجاب بأنَّ «أبولو» قد رماهم بحِرابه المسمومة، لأنَّ أجاممنون قد أبى أن يفدي ابنة كاهِنِه لمَّا وقعت أسيرةً في إحدى المدن التي فتحها اليونان فقسَّموا بينهم نساءها وأسلابها؛ فما إن سمِع أجاممنون جواب العرَّاف حتى ردَّ للكاهن ابنتَه، واستبدل بها «برْيِسِيس» التي كانت نصيب «أخيل» من السبايا؛ فلم يسَعْ أخيل إلا أن يقفل راجعًا إلى سفينته. وهو يكاد يتميَّز من الغيظ، وأعلن أنه لن يُحارب في صفوف اليونان بعد، وطلَبَ إلى أُمِّه ثيتس — وهي من عرائس البحر — أن تصُبَّ نِقمتها هي المُستبد الغاصِب، ودعا «جوف» أن ينتقِم له من قائد اليونان وجُنده، فأبى «جوف» أن يُنزل باليونانيين شرًّا لأنهم في حِمى زوجته.
وتضرَّعت «ثیتس» إلى «جوبتر» أن يكون لابنها أخيل عونًا على عدوِّه أجاممنون، فأوحى جوبتر إلى أجاممنون حلمًا زائفًا يزعُم له أن طروادة قد آنَ لها أن تسقُط في يدَيه، فعليه أن يُبادر بالهجوم. وانخدع أجاممنون بالحلم، وصفَّ جند اليونان في حَومة الوغى استعدادًا للقتال، إلَّا أخيل وأتباعه الذين غادروا المعمعة غاضبين. وتقدَّم جُند طروادة للقاء اليونان، وعندئذٍ تحدَّى «منلاوس» عدوَّه «بارس» أن يُبارزه بمُفرده، إذ كان هذان الفارسان هما سبب القتال، مُذ اختطف الثاني زوجة الأول، وأُعلنت الهدنة بين الجيشين حتى تتمَّ المبارزة بين القائدَين، فطوَّح بارس برُمحه ولكنه لم ينفُذ في درع مُقاتله، وتأهَّب منلاوس واستعان بجوف ثم:
منذ أقدم العصور كان ببلاد اليونان قصص شعبي كما كان بها غناء شعبي، ونحن لا نستطيع أن ندَّعي أسبقية أحدِها في الظهور إلا أن يكون ذلك على سبيل الفروض التي لا تستنِد إلَّا إلى الحقائق النفسية العامة. وهنا قد نستطيع أن نُجازف فنقول بأسبقية الغناء لتأصُّله في طبائع البشر، ثم لأنَّ القصص لا ينشأ إلا بتراخي الزمن، وبعد اجتماع أحداثٍ تعود الشعوب أو القبائل إلى ذِكرها.
ذلك إذا نظرنا إلى هذين النوعَين كأدبٍ شعبي، وأما إذا نظرنا إليهما كأدبٍ فني فالثابت تاريخيًّا هو أسبقية القصص الشعري على الغناء. وتلك ظاهرة يُمكن تفسيرها من الناحية التاريخية إذ يمكن تتبُّع المراحل التي انقرض فيها شِعر الملاحم وحلَّ محلَّه الشعر الغنائي.
ويمكن القول بوجهٍ عام إنَّ الشعر القصصي الفني (شعر الملاحم) قد سيطر على بلاد اليونان ثلاثة قرون (من القرن الحادي عشر قبل الميلاد إلى القرن الثامن قبل الميلاد)، ثُم سيطر الشعر الغنائي ثلاثة قرون أخرى (من الثامن قبل الميلاد إلى الخامس). وأخيرًا سيطر الشعر التمثيلي خلال القرنين الخامس والرابع، ومنذ القرن الرابع يمكن القول بأن عصور الإنتاج الحقيقي قد انتهت بغزو المَقدونيين لبلاد اليونان وتحطيمهم لاستقلال مُدُنها.
وإذن، فالنصوص تؤيد وجود شعر غنائي مُعاصر للشعر القصصي أو سابق عليه، ومع ذلك لم يحرِص هوميروس على أنْ يصُوغ ذلك الشعر، ولا أنْ يرويه، وإنما انصرف جُهده إلى كتابة الشعر القصصي. لأنَّ الشعر الغنائي كان نواةً لم تكتمِل.
ثُم في القرون الثلاثة التي سبقت الحروب الميدية (من القرن الثامن قبل الميلاد إلى القرن الخامس) تطوَّرت بلاد اليونان من الناحيتَين السياسية والعقلية، فقد اختفت الملكيَّات القديمة التي تغنَّى بها هوميروس، وكثُرَت الغزوات والهجرات التي قلبَتْ أوضاع الحياة، وعلى أنقاض الملكية نشأت حكوماتٌ أرستقراطية وحكومات ديمقراطية. ومن حينٍ إلى حين نُظم استبدادية، وفي وسط تلك الحركات والانقلابات أُرهفَ الإحساس، ونمَتِ الشخصية، وتيقَّظ التفكير يبغي إخضاع الأشياء للعقل أو فَهم قوانينها، أو العبارة عن تأثيرها في النفوس.