Canalblog
Suivre ce blog Administration + Créer mon blog

أدب و نقد

23 juillet 2021

السيرة الذاتية

مفهوم السيرة الذاتية:

السيرة-الذاتية

اختلفت الأجناس الأدبية باختلاف الأسباب التي دفعت إلى ظهورها، من بين هذه الأجناس الأدبية '' فن السيرة '' التي لها جذور ضاربة في أعماق تراثنا العربي، و لهذا اهتم الباحثون و اللغويون بمحاولة ضبط مفهومها من الناحية اللغوية و الاصطلاحية، حيث تعددت التعريفات واختلفت باختلاف وجهات نظر الباحثين و اللغويين. فمن الناحية اللغوية تعرف السيرة عند ابن منظور: بـ '' الينَّةُ َو السيقة (1 (يقال: سار بهم سيرة حسنة، و السيرة الهيئة '' . و في المعجم العربي الأساسي سالأُولَى ﴾ (4) أي حالتها و هيئتها الأولى. و في معجم اللغة العربية المعاصرة السيرة الذاتية هي: عمل أدبي يقوم فيه مؤلفه بسرد قصة حياته، و يتضمن بالضرورة وصفا مباشرا و دقيقا لبعض الحوادث التاريخية و ملامح (5 (الحياة في الفترة التي عاش فيها صاحب السيرة . (1 (ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط 4 ،2005 م المجلد 7 ،ص317)مادة سير). (2 (المعجم العربي الأساسي: المنظمة العربية للتربية و الثقافة، ( د . ط )، ( د . ت )، ص 251 . (3 (الفيروز أبادي: قاموس المحيط، بيت الأفكار الدولية، ط 4 ،بيروت، لبنان، 2004 م، ص 870 . (4 (سورة طه: الآية 21 ،برواية ورش. (5 (عمر أحمد مختار: معجم اللغة العربية المعاصرة عالم الكتب للنشر و التوزيع- القاهرة، ط 1 ، .1148 – 1147 ص، م 2008 الفصل الأول مفهوم السيرة الذاتية 13 أما في معجم مصطلحات نقد الرواية فالسيرة الذاتية هي نص سردي يتميز عن الرواية المرويــة بضمير المتكلـم بأنه لا يقدم متخيلا وهميا بل يعرض الأحداث الحقيقية التي وقعت للراوي (الكاتب) و لاشك في أن الصورة التي تقدمها السيرة الذاتية قد تختلف عن حياة الراوي في الواقع، إما بسبب عجز الذاكرة عن إعادة تكوين الحدث الماضي، و إما بسبب الرغبة في (1 (تجميل الحقيقة أو تعتيمها . و السيرة اصطلاحا هي: '' نمط سردي حكائي ينظم في فضاء زماني مكاني محدد، يتولى فيها الراوي ترجمة حياة ذات خصوصية إبداعية في مجال حيوي أو معرفي، فيها من العمق و الغنى ما يستحق أن يروي ليقدم تجربة يمكن أن تثري القارئ و تخصب معرفته بالحياة من خلال الاطلاع عليها و الإفادة منها، ّ و طراء الحياة المرشحة لترجمة سيرتها و تفردها ليس كافيا لإنتاج سيرة يمكن أن تنضم بجدارة إلى ميدان هذا الفن السردي إذ لابد للكاتب الذي يتولى المهمة أن يتمتع بقابليات سرد فنية عالية تؤهله لإنجاز عمل فني سردي تتمثل فيه عناصر (2 (السرد الرئيسية و شروطه التعبيرية و الأسلوبية '' . و هي أيضا في هذا التعريف نجدها عبارة عن سرد حكائي، يقوم على تصوير حياة شخص ما و إعادة الماضي، و بعث الحياة و الحركة و الحرارة في تصوير الأحداث و التجارب الشخصية من أجل إثراء القارئ بها و الإفادة منها. (1 (لطيف زيتوني: معجم مصطلحات نقد الرواية، مكتبة لبنان ناشرون، دار النهار للنشر، ط 1 ،2002 م، .111 – 110 ص (2 (محمد صابر عبيد: السيرة الذاتية الشعرية، قراءة في التجربة السيرية لشعراء الحداثة العربية، ص 109 . الفصل الأول مفهوم السيرة الذاتية 14 و هـي أيضا: '' نـوع من الأنـواع الأدبية التي تتناول التعریـف بحياة رجل أو أكثر، تعريفا يطـول أو يقصـر أو يتعمـق، أو یبــدو على السطح تبعا لثقافة كاتب الترجمة و مدى قدرته على رسم صورة واحدة دقيقة من مجموع المعارف و المعلومات التي تجمعت لديه عن (1 (المترجم له'' . فهي جنس أدبي يستمد مادته من الواقع المعاش، و من التاريخ ليعبر عنها بصورة فنية تعطيها أبعاد تقنية و فنية يصبغها عليها الأديب من خلال تجاربه و مقدرته الإبداعية. و سميت السيرة الذاتية بإضافة صفة الذاتية تمييزا لها عن الغيرية فالأولى تعرض لحياة صاحبها فتعكس مشاعره و عواطفه و مواقفه في الحياة، أما الثانية فتعرض لحياة غيرها من خلال الوقائع و الذكريات و الرسائل... لذلك نجد السيرة الذاتية الأكثر صدقا و الأوقع في النفوس لأن مؤلفها صاحبها فلا يوجد وسيط لعرض أحداث حياته، و مواقفه في الحياة، و مع ذلك فلا يمكن إدراج السيرتين ضمن عالم الأدب، إلا إذا تحلتا بالأسلوب الأدبي الذي يعتمد على صدق الأداء و رصانة التعبير و روعة الألفاظ. فالتعريف الجامع المانع للسيرة الذاتية ضرب من المحال و مرجع ذلك طبيعة هذا النوع الأدبي الذي يعرض فيه صاحب السيرة لحياته الواقعية في أسلوب أدبي، و في صور متعددة قد يتخذ الشكل الروائي أو المقالي أو الاعترافات أو المذكرات ... و هو ما يؤكده فايبروا '' إذ يعتبرها عمل أدبي و أن هذا العمل قد يكون رواية أو قصة أو مقالة فلسفية يعرض فيها المؤلف أفكاره (2 (و يصور أحاسيسه بشكل ضمني أو صريح '' . (1 (محفوظ كحوال: الأجناس الأدبية النثرية و الشعرية، دار نوميديا للنشر و التوزيع، ( د . ط )، 2007 م، ص 75 . (1 (شعبان عبد الحكيم محمـد، السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث ( رؤية نقدية )، ص 11 . الفصل الأول مفهوم السيرة الذاتية 15 حيث يتجلى لنا من خلال هذا الطرح، الأشكال المختلفة التي تتخذها السيرة الذاتية، و التي تصب في قالب واحد يعبر عن مسيرة شخصية ما، و المراحل التي مرت بها، و هو ما ذهب إليه أنيس المقدسي: فهي عنده '' نوع من الأدب يجمع بين التحري التاريخي و الإيقاع (1 (القصصي و يراد به درس حياة فرد من الأفراد و رسم صورة دقيقة لشخصه '' . فالسيرة الذاتية تتطلب دقة متناهية في التعبير عن شخصية معينة و ذلك بالتطرق لمختلف المراحل الحياتية لها. و لعل أقرب التعريفات لهذا الجنس الأدبي ما ذهب إليه الدكتور يحي إبراهيم عبد الدايم بقوله: '' الترجمة الذاتية الفنية هي التي يصوغها صاحبها في صورة مترابطة على أساس من الوحدة و الاتساق في البناء و الروح، و في أسلوب أدبي قادر على أن ينقل إلينا محتوى وافيا كافيا عن تاريخه الشخصي، على نحو موجز حافل بالتجارب و الخبرات المنوعة الخصبة، (2 (و يقوم على جمال العرض و حسن التقسيم و عذوبة العبارات و حلاوة النص الأدبي'' . فمن خلال هذا الطرح، يتبين لنا أنه ليس كل عمل أدبي يعد سيرة بمعناه الحقيقي، إلا إذا كان تفسيرا لحياة الشخص. (1 (محفوظ كحوال: الأجناس الأدبية النثرية و الشعرية، ص 75 . (2 (يحي إبراهيـم عبد الدايـم، الترجمـة الذاتية فــــي الأدب العربي الحديث، ص 10 . الفصل الأول مفهوم السيرة الذاتية 16 و يعرفها محمد عبد الغني حسن بقوله: '' التراجم هي ذلك النوع من الأنواع الأدبية الذي يتناول للتعريف بحياة رجل... تعريف يطول أو يقصر و يتعمق أو يبدوا على السطح تبعا لحالة العصر الذي كتبت فيه الترجمة، و تبعا لثقافة المترجم - أي صاحب الترجمة - و مدى قدرته على رسم صورة كلية واضحة... و دقيقة من مجموع المعارف و المعلومات التي تجمعت (1 (لديه '' . و عند الدكتور محمد يوسف نجم: '' هذا النوع يقوم على وحدة الحياة لا وحدة الحادثة أو (2 (وحدة العمل القصصي، أو وحدة التأثير '' . و يعرفها علي شلق في قوله: '' هي نوع من الأدب الحميم الذي هو أشد لصوقا بالإنسان من أية تجربة أخرى يعانيها، إذ أن خطوط السيرة الذاتية خطوط ينسلها من فول شخصه و جداول (3 (تنبع من قراراته '' كل هذه التعريفات تتلاقى و تتجاوز و لا تتعارض، لتجمع على أن السيرة الذاتية عمل أدبي يقوم بتأليفه صاحبه و يعرض لسيرة حياته في إطار عصره، و هي بذلك تعد بيانا أو تقريرا شخصيا يتطـرق فيه صاحبه لبعض المعلومات الشخصية، فهي إذا سجل للأحداث لأنها تتحدث عن تاريخ عصر من العصور و تصوير حقبة من الزمن مما يجعل في قراءاتها متعة و فائدة مما تدل عليه من ملامح الحياة، و مما تحمله من أفكار و كشف لحقائق النفس إذ يتجلى فيها صدق التعبير و براعة التصوير. (1 (محمد عبد الغني حسن: التراجم و السير، دار المعارف للنشر و التوزيع، ط 3 ) ،د . ت )، ص 9 . (2 (شعبان عبد الحكيم محمد: السيـرة الذاتية فـي الأدب العربي الحديث، رؤية نقدية، ص 11 . (3 (تهاني عبد الفتاح شاكر: السيرة الذاتية في الأدب العربي، ص 15 . الفصل الأول مفهوم السيرة الذاتية

سؤال النشأة

تمثل السيرة الذاتية جنس أدبي فرض وجوده على امتداد التاريخ الإنساني كائنا موجودا وجود الذات الإنسانية، مثيرا للأسئلة المعرفية و العلمية، تتمحور حول هذه الذات لمقدرته على رصد و استيعاب التجارب البشرية، فهو مرآة تعكس حياة الإنسان في عمقها و تطرح ذاكراته المشوبة بالعديد من التجليات، و البوح الذاتي إذ تجسد بوضوح ما هو كامن في أعماقه من قوة و ضعف كاشفا عن مجاهل الحياة و أسرارها. و في هذا الصدد، لا يكاد يخلو عمل من بذور و لو صغيرة من ذات الكاتب و حياته و هواجسه، حتى و إن لم يصرح بذلك علنا، كان '' غوستاف فلوبير''( veloubier Gustav( يقول: أناهي مدام بوفاري و مدام بوفاري هي الشخصية المحورية في روايته الشهيرة '' مدام بوفاري '' ( bouvari Madame ( و قد صرح:'' نجيب محفوظ أكثر من مرة: أنا هو: كمال عبد الجواد.... الشخصية البارزة في الجزء الثالث من الثلاثية، و الأمثلة كثيرة في هذا المضمار، و ما هي إلا برهان صارخ على استحالة فصل الذات الكاتبة عن العمل الأدبي، و يطرح هذا الارتباط الوثيق عدة إشكاليات منها ما يتعلق بنشأة الجنس السير ذاتي و أصوله (1 (الأولية، فهل هو جنس أدبي حديث النشأة أم له عناصره الأولية في التراث العربي؟ . (1 (سامية بابا: مكون السيرة الذاتية في الرواية، حكايتي شرح يطول لحنان الشيخ، ص 39 .

مفهوم السيرة الذاتية 

main279

اختلف النقاد العرب حول نشأة السيرة الذاتية، فهناك من يراها أقدم الفنون الأدبية نشأة مثل '' شوقي ضيف '' الذي يؤكد أن الإرهاصات الأولى للسيرة الذاتية، كانت لأمم قبل العرب فيقول: '' لعل أقدم صورة للترجمة الشخصية تلك الكلمات التي كان ينقشها القدماء على شواهد قبورهم، فيعرفون بأنفسهم و قد يذكرون بعض أعمالهم و اشتهر المصريون في عصر الفراعنة بكثرة ما نقشوا على قبورهم و أهراماتهم [....] و مع مر التاريخ نشأ المؤرخون و نشأت طبقات من المفكرين و الفلاسفة، و أودعت كتاباتها كثيرا من حياتها و أحوالها و تجاربها، و كان من أهم ما قرأ له العرب فصولا طويلة في ذلك '' جالينوس'' (jalinous ( الفيلسوف (1 (و الطبيب اليوناني المشهور . و إذا كان شوقي ضيف يرى أن العرب تأثروا بأمم غيرهم أمثال الفرس و اليونان، فإن '' عبد الرحمن بدوي '' ينفي إمكانية وجود السيرة الذاتية لدى العرب مؤكدا أن الجنس السامي غير قادر على كتابة السيرة الذاتية، قائلا: '' فالكتاب في العربية الذين درسوا عربا خلصا، بل ينتسبون إلى الجنس الآري، من فرس و موال على اختلاف أجناسهم و في هذا القليل الذي كتبوه لم يبلغ الغاية التي قصد إليها من هذا النوع من الأدب و نعني بها التعبير عن الشخصية (2 (كوحدة روحية لها كيانها الخاص و ميزتها الروحية التي تميزت بها '' . (1 (شوقي ضيف، الترجمة الشخصية، دار المعارف، ط 4 ،1987 م، ص 08 . (2 (عبد الرحمن بدوي، الموت و العبقرية، دار العلم، بيروت لبنان، ط 01 ،1998 ،ص 116. الفصل الأول مفهوم السيرة الذاتية 19 أما '' شكري مبخوت '' فلا يعترف بوجود أصول لهذا الفن في الأدب العربي و ينقل قول جورج ماي بأن السيرة الذاتية فن خاص بالثقافة الغربية، و يعلق عليه بقوله: '' و كل من يكتب (1 (سيرة ذاتية من غير الغربيين إنما هو مقلد لهم متأثر بثقافتهم '' . فهو هنا و بقوله هذا ينفي وجود هذا الجنس الأدبي في الثقافة العربية. و مما لا شك فيه أن هذا الكلام بعيد كل البعد عن الدقة و الدراسة الموضوعية لأن أصول (2 (السيرة الذاتية موجودة في الأدب العربي منذ القرن الأول الهجري، السابع الميلادي . و لقد تناول المستشرقون هذه القضية بالدرس و التمحيص، إذ نجد المستشرق الألماني'' فرانس روزنتال '' ( Rosenthal Franz ( في تاريخ التراجم الذاتية في اللغة العربية، '' فتحدث عن أشهرها، و لخصه و حدد طابعه، و تناول هذا التاريخ قرنا فقرنا ابتداءا من القرن الثالث الهجري، حتى القرن العاشر الهجري، و وقف عند هذا التاريخ لأنه رأى في هذه الفترة الكفاية '' (3) ، و يرى روزنتال أن هذه التراجم الذاتية العربية اقتبسها العرب من مصدرين هامين هما: الأدب اليوناني و الفارسي.

 

Untitled26

. (عبد الرحمن بدوي، الموت و العبقرية، ص 116 . الفصل الأول مفهوم السيرة الذاتية 20 أما تهاني عبد الفتاح شاكر، فترى أن '' السيرة الذاتية موجودة في الأدب العربي منذ (1 (القرن الأول الهجري السابع للميلادي '' حيث توصلت إلى أن سيرة '' سلمان الفارسي ''، الصحابي الجليل هي النواة الأولى التي انبثقت منها السيرة الذاتية العربية وانتشرت بعدها على مر العصور الأدبية المتلاحقة، حتى بلغت مداها مع نماذج بعينها، و لعل أسمى صورة للتراجم الشخصية العربية ظهرت في القرن الثامن على يد لسان الدين بن الخطيب ( توفي سنة 776 ،( و معاصره الأصغر منه عبد الرحمن بن خلدون ( توفي سنة 808 ( ففي الترجمة الشخصية (2 (لهذين حديث طويل عن نشاطهما العلمي و العقلي '' . و إلى جانب السيرة العلمية و الفكرية التي نرصدها في هذا النوع من الكتابة الأدبية، في التراث العربي، نجد مجموعة منها تهدف إلى المثالية الروحية و لذلك فإنها تقدم النمط التهذيبي، حثا على القدوة و الاحتذاء، لأن أصحابها من أعلام الصرفية يخاطبون بها الأتباع و المريدين، حيث يصورون مواجيدهم و أذواقهم و من أشهرهم: '' الحلاج'' و'' ابن عربي '' و '' ابن الفارض '' و '' السهروردي '' و '' الشعراني '' و تندرج هذه الأعمال التراثية في (3 (باب التراجم و السير ، فهي تمثل جزءا كبيرا من الموروث الفكري و الأدبي، و عموما لا فرق بين مصطلح الترجمة و السيرة ففي السنوات الأخيرة صارت كلمة '' ترجمة '' (1 (تهاني عبد الفتاح شاكر، السيرة الذاتية في الأدب العربي، ص 32 . (2 (عبد الرحمن بدوي، الموت و العبقرية، ص 125 . (3 (مكون السيرة الذاتية في الرواية حكايتي شرح يطول لحنان الشيخ، ص 50 . الفصل الأول مفهوم السيرة الذاتية 21 يجري الاصطلاح على استعمالها لتدل على تاريخ الحياة الموجزة للفرد، و كلمة '' سيرة '' يصطلح على استعمالها لتدل على التاريخ المسهب للحياة و إذا كان السابقون يفرقون في الاستعمال بين اللفظين فإن الاصطلاح الحديث لا يفرق بينهما، و من هذا جاء الاصطلاح: '' الترجمة أو السيرة الذاتية '' إلا أنه يوجد أنواع متباينة نرصدها في التراث العربي منها ما ينزع (1 (نحو الموضوعية أم الذاتية و أخرى تعبر عن الذاكرة الجمعية للشعوب تشكل سيرا شعبية. فالمتفحص للموروث الأدبي العربي قديما، سيجد إرهاصات أولية لهذا الجنس الأدبي الذي اتفق أغلب النقاد الغربيين على حداثة نشأته، أما على مستوى الدراسات النقدية العربية فنجد أولى الدراسات التي انتهجت نهج التأريخ لنشأة جنس السيرة الذاتية منذ العصور القديمة، قد صدرت عن مبادرات استشراقية يعد أهمها و أولها هو: مقال مطول للمستشرق الألماني فرانس روزنتال ( Rosenthal Franz ( نشر في نهاية الثلاثينات في مجموعة الأبحاث الشرقية التي يصدرها المعهد البابوي للكتاب المقدس بروما ضمن مجموعة بحوث ثلاثية بعنوان '' دراسات (2 (عربية رقم 01 .و يبدوا أن الباحث المذكور قد تأثر بمنهج جورج ميش '' . و يرى د. عبد الرحمن بدوي، أن هذه الدراسات قد ظهرت سنة 1937 م، و الأستاذ فرانس روزنتال مستشرق ألماني مشهور، خرج من ألمانيا و أخرج منها بعد أن جاءت النازية إلى الحكم، فصار ينشر أبحاثه في مجلات المستشرقين الإيطالية و بخاصة في مجلة '' الشرقيات '' (3 (ثم هاجر إلى أمريكا و صار اليوم أستاذا في جامعة ييل YALE . (1 (المرجع نفسه، ص 52 . (2 (جليلـة الطريطر، مقومات السيرة فـي الأدب العربـي الحديث ( بحـث في المرجعيات )، ص 288 . (3 (عبد الرحمن بدوي، الموت و العبقرية، ص 116. الفصل الأول مفهوم السيرة الذاتية 22 و يؤكد هذا الرأي محمد كامل الخطيب، فيرى أن السيرة الذاتية قد بدأت تأخذ مكانها في الأدب العربي، منذ أواسط القرن التاسع عشر، فيقول: '' يبدوا أن السيرة قد بدأت تحقق لنفسها مكانا متميزا، ووجودا كميا و نوعيا في المجتمع و الثقافة العربيين الحديثين، بحيث صار بالإمكان اعتبار هذا النوع من الكتابة جسما أدبيا مستقلا و مشاركا في نسيج الثقافة العربية الحديثة و أحد حلقات السلسلة الثقافية العربية الجديدة التي تجري عملية إعادة تكوينها منذ (1 (أواسط القرن التاسع عشر '' . إلا أن الجدير بالذكر أهمية الباعث الديني كسبب وجيه لخدمة الحديث النبوي و السيرة النبوية، و الاهتمام بهما كان مبكرا حسب روزنتال إذ يقول: '' ظهرت من أجل تدعيم علمي للحديث و الفقه، و لكن التراجم اتسع موضوعها، ليشمل الشعراء و النحاة و القراء و الصحابة (2 (و المفسرين و الحكماء و الأطباء و الأعيان و أصحاب المذاهب ... إلخ . إذ يمثل جنس السيرة الذاتية جزءا كبيرا من الموروث العربي يصعب رصده ذلك أنه امتد إلى جميع حقول النشاط الثقافي و الفكري على امتداد العصور. (1 (جرجي زيدان: مذكرات جرجي زيدان، تقديم محمد كامل الخطيب، وزارة الثقافة، دمشق، ط 1 ، 2005 م، ص 5 . (2 (عبد االله إبراهيم، السردية العربية، المؤسسة العربية للدراسات و النشر، بيروت، ط 1 ،2000 م، ص 148. الفصل الأول مفهوم السيرة الذاتية 23 و في الختام تصل الباحثة '' تهاني عبد الفتاح شاكر '' إلى نتيجة مفادها '' أن الأدب العربي القديم لا يقدم لنا سيرة ذاتية تحمل ملامح السيرة الذاتية الحديثة و سماتها، لأن لكل عصر أدبي ملامحه و سماته الخاصة، كما أن الأشكال الأدبية في تطور مستمر '' لذلك يمكن اعتبار هذه العناصر السير ذاتية التي وردت في كتب التراث، البذور الأولى و النواة المشكلة للسيرة (1 (الذاتية . في حين يحصرها '' عبد السلام المسدي '' في أنموذجين بارزين أولهما '' جاءنا به حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في رائعته '' المنقذ من الضلال ''، و الثاني فيلسوف التاريخ و واضع (2 (علم العمران ابن خلدون حين قصد إلى التعريف بنفسه و برحلته شرقا و غربا . و بناء على ما سلف فإننا نصل إلى دحض المقولة التي تنفي عدم وجود جنس السيرة الذاتية في الأدب العربي قديما، و لو في أشكاله الأولية التي تطورت فيما بعد في العصر الحديث. أما ريم العيساوي فترى أن السيرة الذاتية في العصر الحديث قد خرج كتابها عن السائد و تخلصوا من الأفكار الجامدة، فأفصحوا عن ذواتهم في صدق وصراحة لدرجة أن بعضهم بلغ من حرصه حد التزام الصراحة بالعيوب و النزوات الشخصية لكنهم لم يبلغوا فيها حد عري (3 (النفس و المكاشفة كالتراجم الغربية مثل: اعترافات '' روسو '' و '' أندريه جيد '' و هذه طبيعة الذات العربية التي لا تنزع نحو التعرية و كشف خفايا النفس. (1 (تهاني عبد الفتاح شاكر، السيرة الذاتية في الأدب العربي، ص 64 . (2 (عبد السلام المسدي، النقد و الحداثة، دار الطليعة، بيروت، ط 1 ،1983 م، ص 114 . (3 (ريم العيساوي، فدوى طوقان، نقد الذات، قراءة السيرة، الدار المصرية اللبنانية، ( د . ط )، 1998 م، ص 22. الفصل الأول مفهوم السيرة الذاتية 24 أما إذا عدنا إلى الأدب العربي الحديث، وجدنا كتاب '' أحمد فارس الشدياق '' ساق على ساق ( 1805 – 1887 م )، يحتل الصدارة حيث صور فيه حياته، و مغامراته التي تنطلق من طفولته إلى رحلاته فيما بعد على نحو صريح فداعب المقامة و الشعر الكلاسيكي متعاليا عليهما و مقوضا أسسها، و ناقش الفن السردي الرومانسي الغربي متعاليا عليه فكان أول من صاغ. علميا الإشكال الجديدة حول ماهية الجنس الأدبي و توالت بعدها الكتابات التي تدور في فلك أدب الذات، إذ نجد كتاب '' تحفة الأذكياء بأخبار بلاد روسيا ''، صور فيه مراح حياته العلمية و رحلته إلى القاهرة ثم رحلته إلى روسيا و كتاب '' الخطط التوفيقية '' الجديدة لـ: علي مبارك ( 1824 – 1893 م ) غير أن هذه الكتب لم تظهر بالشكل الفني المعترف به لدى النقاد الغربيين الذين يرون الاعترافات لـ جان جاك روسو ( Confessions Les ،( فاتحة الجنس (1 (السير ذاتي فماذا 

Publicité
Publicité
23 juillet 2021

شكالية الهوية في األدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية

16 juillet 2021

الأدب المسرحي

تاريخ المـــــــــــــسرح العــــــــــــــالمي

epoha-vozrozhdeniya-kratkaya-harakteristika-epohi-vozrozhdeniya-2

-تعريف المسرح

المسرح أو الفن الدرامي تأليف أدبي مكتوب بالنثر أو الشعر بطريقة حوارية، وهو موجه للقراءة أو العرض. ويستعين المسرح الدرامي بمجموعة من العناصر الأساسية أثناء العرض مثل: الكتابة والإخراج والتأويل والديكور والملابس. وتشتق كلمة دراما من الفعل والصراع والتوتر. وقد يكون المسرح في تاريخه القديم ناتجا عن الرقص والغناء.

المسرح الإغريقي

Teatro-allantica-in-Sabbioneta-5

لقد ظهر المسرح لأول مرة في اليونان وذلك في القرن السادس قبل الميلاد، ويعد كتاب أرسطو( فن الشعر) أول كتاب نظري ونقدي لشعرية المسرح وقواعده الكلاسيكية. وقد نشأ المسرح التراجيدي حسب أرسطو من فن الديثرامب الذي يمجد آلهة ديونيزوس بالأناشيد والتاريخ. وحسب الأسطورة يعد ثيسبيس أول ممثل بلور الفن الدرامي متقمصا دورا أساسيا في القصة الديثرامبية وذلك في القرن السادس قبل الميلاد، وكان مرنما كلما أنشد منولوجا ردت عليه الجوقة بما يناسب ذلك. وكانت هذه المحاولة البداية الفعلية للآخرين لتطوير المسرح نحو جنس أدبي مستقل.

ولم تعرف التراجيديا اليونانية أوجها إلا في القرن الخامس قبل الميلاد، إذ ظهر أكثر من ألف نص تراجيدي، ولم يبق سوى واحد وثلاثين نصا فقط. و قد كتب هذه النصوص الدرامية كل من أسخيلوس وسوفكلوس ويوربيديس.وتتفق هذه التراجيديات في بناء صارم يتمثل في الصياغة الشعرية، وتقسيم المتن إلى فصول، وتناوب الحوار بين الشخصيات( أكثر من ثلاث شخصيات)، والجوقة التي تردد الأناشيد الشعرية، والقصص المأخوذة من الأساطير القديمة أو التاريخ القديم حيث يستوحي منها الشعراء الدراميون بكل حرية أسئلتهم السياسية والفلسفية.

وتقام المسرحيات في أثينا إبان حفلات ديونيسوس: إله الخصب والنماء. وقد اعتاد اليونانيون أن يقيموا للآلهة حفلين: حفل في الشتاء بعد جني العنب وعصر الخمور؛ فتكثر لذلك الأفراح وتعقد حفلات الرقص وتنشد الأغاني ومن هنا نشأت الكوميديات. وفي فصل الربيع، حيث تكون الكروم قد جفت وعبست الطبيعة وتجهمت بأحزانها مما أفرز فن التراجيديا. وكانت تجرى مسابقات مسرحية لاختيار أجود النصوص الدرامية لتمثيلها بهذه المناسبة الديونيسوسية ذات الوظيفتين: الدينية والفنية. و لابد أن تفوز بهذه المسابقة ثلاثة نصوص تمثل وتعرض أمام المشاهدين، ومن شروطها أن تكون هجائية تسخر من الآلهات وتنتقدها.

وشهدت الكوميديا تطورا كبيرا منذ منتصف القرن الخامس قبل الميلاد. ومن أهم الكوميديين نجد أريستوفانوس بمسرحيته الرائعة( الضفادع)، وكانت الكوميديا تنتقد الشخصيات العامة وتسخر من الآلهات بطريقة كاريكاتورية ساخرة. وقد حلت الكوميديا محل التراجيديا في القرن الرابع قبل الميلاد.
وانتشرت الثقافة الهيلينية في أصقاع العالم بفضل غزوات الإسكندر الأكبر، وذاع صيت المسرح اليوناني بكل أنواعه وقضاياه وأبنيته الفنية.

وإذا تأملنا معمارية المسرح اليوناني وجدنا العروض المسرحية تقدم في الهواء الطلق في فضاء مسرحي دائري محاط بمقاعد متدرجة من الأسفل إلى الأعلى على سفح الهضبة في شكل نصف دائرة( المدرج)، ويحضره ما بين 15000و20000 من المشاهدين الذين كانوا يدخلون المسرح مجانا؛ لأن المسرح من أهم المقاطعات العمومية التي كانت تشرف عليها الدولة- المدينة ووسيلة للتوعية والتهذيب الديني والتطهير الأخلاقي.

و يمثل على خشبتها المنبسطة ممثلون يلبسون ثيابا عادية مخصصة لكل دور درامي مناسب، كما كانوا يضعون على وجوههم أقنعة نشخص أدوارا خاصة، وكان الممثلون محترمين ولهم مكانة سامية في المجتمع اليوناني. ويمتزج في النص المعروض:الدراما الحركية والغناء والرقص والشعر؛ مما يقرب العرض من الأوبرا أكثر مما يقربه من المسرح الحديث.

3- المسرح الروماني

ob_975ea3_capture-d-e-cran-2017-09-26-a-23

لم يتطور المسرح الروماني إلا في القرن الثالث قبل الميلاد.وقد ارتبط هذا المسرح بالحفلات الدينية التي كانت كثيرة، كما كان للمسرح وظيفة الترفيه و التسلية مع انعقاد الحفلات الدنيوية. وتعد الكوميديا الشكل الشعبي المعروف في الرومان القديمة منذ القرن الثاني قبل الميلاد، وقد ازدهرت مع بلوتوس وتيرينس المتأثرين بالكوميديا الإغريقية الجديدة.

ومن التراجيديات المعروفة في الرومان نجد مسرحيات سينيك إبان القرن الأول قبل الميلاد وتراجيديات سالون التي سارت على غرار التراجيديات الإغريقية. بيد أن المسرح الروماني سينقرض مع ظهر الكنيسة المسيحية وسقوط الإمبراطورية الرومانية، فاختفى بذلك المسرح الكلاسيكي: اليوناني والروماني من الثقافة الغربية لمدة خمسة قرون.

4- مسرح العصور الوسطى:

وعلى الرغم من ذلك، فلقد ظهر المسرح في العصور الوسطى في أحضان الطقوس الدينية ضمن فضاء الكنيسة المسيحية الكاثوليكية. وكانت النصوص الدرامية تقام بالمناسبات الدينية والفلكلورية والوثنية: (dimanche des Rameaux )
وفي هذه الفترة استثمرت القصص الإنجيلية وأحداثها الطقوسية والقداسية في توليد العروض المسرحية التي تجسد الصراع بين ما هو دنيوي وأخروي، وصراع مريم والمسيح ضد الأهواء والشياطين. واستعان الممثلون بفنون حركية وملابس درامية خاصة، وكان هذا بداية جنينية للإخراج المسرحي. وإذا كان المسرح الروماني قد ارتبط بفضاء معمارية الإمبراطورية اليونانية فإن المسرح في العصور الوسطى ارتبط بفضاء درامي ديني طقوسي لا يخرج عن فضاء الكنيسة أو الكاتدرائية الإنجيلية أو الفضاءات الدينية ذات الديكور الديني الإنجيلي المعروف التي تجسد ثنائية الجنة والجحيم والأهواء وخطاب المعجزات والمقدسات الدينية.

ومن النصوص التي تعود إلى تلك الفترة نص مجهول أنجلو نورماندي بعنوان( لعبة آدم) يتضمن 942 بيتا شعريا وإرشادات مسرحية غنية وواضحة مكتوبة باللاتينية.
ويلاحظ أن في هذه الفترة يمكن الحديث عن أنواع ثلاثة من المسرح الوسيطي:
أ- المسرح المقدس( الديني)؛
ب- المسرح المدنس( مسرح دنيوي هازل)؛
ج- المسرح الأخلاقي الذي تشرب من تعاليم الإنجيل وقيمه التهذيبية.

5- المسرح في عصر النهضة أو المسرح الكلاسيكي الجديد( المدرسة الكلاسيكية):

في عصر النهضة، أثرت ثورة الإصلاح الديني البروتستانتي بقيادة مارتن لوثر على المسرح، فأخرجه من طابعه المقدس إلى طابع هزلي دنيوي مدنس.وقد انطلق المسرح الكلاسيكي في عصر النهضة من شعرية المسرح الإغريقي والمسرح الروماني؛ ذلك ببعثه وإحيائه من جديد قصد تطويره والسير به نحو آفاق جديدة.

أ- المسرح الإيطالي:

ظهر شكل مسرحي جديد بإيطاليا في القرن الخامس عشر الميلادي، وقد سار على المنوال الروماني مستفيدا من نظريات أرسطو في فن الشعر مستبعدا كل ما كان قبل ذلك من مسرحيات دينية وفلكلورية ودرامية، وأصبح البحث الدرامي بحثا جماليا وبلاغيا خالصا.وكانت لاتقام المسرحيات إلا في إطار حفلات المجالس والجمعيات المسرحية. ومن أهم النصوص في تلك الفترة مسرحية مكيافلي Machiavel بعنوان( ماندراﭽور Mandragore)، وهي مسرحية هزلية وقحة فظة.

ومن أهم مبادىء مسرح عصر النهضة الكلاسيكي:احترام مبدأ المحاكاة الحرفية للواقع ورفض الوهم و اللاواقع والتركيز على المثال الأخلاقي والصرامة الجمالية والفصل الدقيق بين الأجناس ( التراجيديا/ الكوميديا)، وينبغي أن تظهر الشخصيات باعتبارها نماذج إنسانية لا كأفراد أحياء واقعيين، والالتزام بالوحدات الأرسطية الثلاث كوحدة الحدث ( حدث درامي واحد)، ووحدة الزمن( حدث يقع في 24 ساعة)، ووحدة المكان
( تجري الأحداث المعالجة في مكان درامي واحد)؛ لأن عدم الالتزام بهذه القواعد الثلاث يتنافى مع المبدأ الذي أرساه أرسطو ( المحاكاة)، والاعتماد على العقل، والتأثير على الجمهور واستجلاب مواقفه وردوده الانفعالية.
ومن التجديدات المسرحية التي عرفها المسرح الإيطالي أن العروض كانت تقدم في فضاءات ركحية مبنية: في القاعات أو ساحات القصور أو تتخذ شكلا مستطيلا مع الارتباط بمعمارية الهندسة المسرحية الرومانية. ومع اكتشاف المنظور، سمح للتصور السينوغرافي بخلق الإيهام بالواقعية الدرامية، وتم تنويع الديكور، وإثراء الفصول الدرامية الخمسة بمشاهد وعروض مجازية استعارية دخيلة تتخلل هذه الفصول.وقد وضع فاصل معماري(غطاء)لفصل قاعة الجمهور عن خشبة التمويه الفني.
وإلى جانب هذا المسرح، ظهر فن جديد يعتمد على الغناء والترنيم وهو فن الأوبرا الذي خصصت له مبان فاخرة وفخمة تردادها الطبقة الأرستقراطية التي تأتي لا لسماع العروض الغنائية بل لكي ترى.

صارت الأوبرا فنا شعبيا منتشرا في إيطاليا منذ 1600م ، و ظهرت الكوميديا الشعبية المرتجلة( كوميديا دي لارتي dell’arte)، وكان لها جمهور واسع فيما بعد. وقد بلغت أوجها بين 1550و1650.

ب- المسرح الفرنسي:

تنطلق النصوص المسرحية الفرنسية الكلاسيكية من عدة مبادىء أرسطية تتمثل في:
- تقليد الطبيعة أو تقديم صور فنية منظمة وجيدة عن الطبيعة؛
- احترام العقل والابتعاد قدر الإمكان عن الوهم والخيال؛
- الوظيفة الأخلاقية المبنية على الإرشاد وتعليم الناس القيم الأخلاقية وتغيير المجتمع عبر نشر الفضيلة ودرء الرذيلة؛
- احترام مبدأ المحاكاة؛
- مراقبة اللياقة والأدب؛
- الالتزام بالوحدات الثلاث.

ولم يظهر المسرح الكلاسيكي في فرنسا إلا في1630م مع تراجيديات
راسين Racine وكورناي Corneille. وكانت مبادىء المسرح اليوناني تحترم بشدة، وعندما حاول كورناي في مسرحيته ( Le Cid السيد) انتهاك قاعدة المحاكاة لم تجزها الأكاديمية الفرنسية على الرغم من نجاحها.وكانت المسرحيات الكلاسيكية الفرنسية تعتمد على الأساطير وتمثل البنية الدرامية الموروثة واستعمال الإيقاع الكلاسيكي الجديد.
وإلى جانب التراجيديين راسين وكورناي كان هناك المسرحي الكبير موليير Molièreالذي أنتج هزليات مضحكة متأثرا بالكوميديا الشعبية الإيطالية وكوميديات القيم. وكان موليير أكبر ممثل كوميدي في عصره، يدير شركة مسرحية تحولت بعد موته بقرار لويس 14 إلى الكوميديا الفرنسية التي تعد اليوم أقدم مسرح وطني في العالم.

ج- المسرح الإنجليزي

dc23d-25d825b925d825b725d9258a25d92584

تطور المسرح الإنجليزي في عهد إليزابيت الأولى في أواخر القرن السادس عشر حيث أبقى تقاليد المسرح الشعبي في العصور الوسطى. ومع التطور السياسي والاقتصادي وتطور اللغة، ساهم الهواة الدراميون أمثال توماس كايد THOMAS KYDوكريستوفر مارلو Christopher Marlowe في نهضة المسرح الملحمي الذي بلغ نضجه وازدهاره مع وليام شكسبير.

وقد اعتمد شكسبير في بناء مسرحياته على سنيك وبلوتوس والكوميديا المرتجلة، ومزج بين التراجيديا والكوميديا، كما مزج بين المشهد والرقص والغناء. وكانت عقده الدرامية ممتدة في الفضاء الزمكاني.وكان يستقرىء التاريخ بدل الأسطورة.وكانت الكوميديات الإنجليزية رعوية تستعمل عناصر سحرية وغير عقلية. وظهر رواد دراميون بعد شكسبير مثل بن جنسون Ben Jonson. وبعد وفاة الملكة اتخذ المسرح شكلا مظلما وقحا خاصة مسرحيات جونسون.
وفي 1642، تم إغلاق المسارح وتدميرها وتخريبها بسبب الحرب الأهلية وقرار البرلمان الذي انساق وراء ضرورة الغلق تحت ضغط المتزمتين الصارمين.واستمر الوضع حتى 1660. وبعد عودة الاستقرار أصبح المسرح موجها إلى نخبة محدودة، وارتكن الفن الدرامي إلى محاكاة النصوص الفرنسية والإيطالية، ولأول مرة تعطى للمرأة أدوار تشخيصية مناسبة منذ العصر الوسيط. ومن أهم كتاب المرحلة نجد وليام كونجريف William Congreve.

د- المسرح الإسباني:

عرف المسرح الإسباني في عصر النهضة نفس التطور الذي شهده المسرح الإنجليزي في عهد إليزابيت الأولى بالخصوص في منتصف القرن17م مع لوبي دي فيكا Lope de Vega وبيدرو كالديرون Pedro Calderon. وكان هذا المسرح مقترنا بالتقاليد الإسبانية القائمة على الأفكار المثالية المرتبطة بالشرف والحق الإلهي المقدس، وكان الجمهور المثقف هو الذي يقبل على هذا النوع من المسرح، لكن هذا المسرح لن يعرف التطور الذي عرفه المسرح في فرنسا وانجلترا بل سرعان ما انطفأت شعلته يسبب هزيمة إسبانيا في معركة أرمادا ومحاكم التفتيش والتوجه الديني الصارم.

هــ- المسرح في القرن18م:

220px-Desdemona_and_Othello_by_Jack_Leigh_Wardleworth_(Hartlepool)

في بداية القرن 18 م، قليل من الكتاب الدراميين في فرنسا يستوجبون الاحترام باستثناء جان فرنسوا رينيارد Jean – François Regnard وألان روني لوساج Alain René Lesage. وقد أعطى مسرح الشارع وساحات الأعياد شكلا مسرحيا جديدا هو المسرح الشعبي. وكان المسرح في هذا القرن كأنه كتب للممثلين حيث تكتب النصوص حسب أذواقهم ورغباتهم؛ ولكن ضمن القواعد الكلاسيكية. واشتهرت نصوص رائعة في هذه الفترة مثل روميو وجولييت والملك لير. وقد ساهم بعض النقاد مع عصر الأنوار في تطوير المسرح مثل فولتير وديدرو والآنسة كليرون Mlle Clairon وليسينج Lessingفي ألمانيا. وقد كانت توضيحاتهم النقدية والإصلاحية علامات مضيئة لفن الإخراج المسرحي.

- 6 المدرسة الرومانسية:

ظهرت المدرسة الرومانسية في القرن التاسع عشر الميلادي مع مجموعة من الرواد الكبار أمثال فيكتور هيجوV . Hugo وألسكندر دوما Alexandre Dumas (هنري الثالث ومجلسه) ، وألفرد دو موسيه Alfred de Musset( لورينزاصيو Lorenzaccio، لا نتلاعب بالحب، ليلة البندقية، تقلبات ماريانا، فانتازيو..)، وألفرد دوفينيه Alfred de Vigny وجوته Goethe صاحب مسرحية( فاوست) وشيلرSchiller...

ومن مرتكزات الرومانسية في المجال الدرامي:

أ- حرية الإبداع؛

ب- تكسير الوحدات الثلاث؛

ج- الخلط بين الأجناس الأدبية وتوحيدها في بوتقة واحدة كالمزج بين التراجيدي والكوميدي، والجمع بين الشخصيات النبيلة والدنيئة، وبين الضحك والبكاء؛

د- الجمع بين الرفيع والوضيع؛

هــ- محاكاة الطبيعة.

وتعد مقدمة كرومويل Cromwell (1829) البداية الفعلية لتأسيس المسرح الرومانسي الثائر على المسرح الكلاسكي المرتبط بقواعد أرسطو وتعاليم المسرح الروماني.

وينطلق هذا المذهب الرومانسي من فلسفة جان جاك روسو الداعية إلى العودة إلى الطبيعة والثورة على مجتمع المدنية والفساد. كما نجد هذا المذهب يدافع كثيرا على فن الفرد والشخصية وتشخيص الذات والإيمان بالعاطفة بدل العقل، لذا تحضر لديهم صور روحانية مجردة تسمو بالإنسان. ودراميا، استوحى آراء شكسبير الدرامية في الثورة على الوحدات الثلاث المعروفة، وتنويع النغمات والخلط بين الأجناس.

وقد انطلقت الرومانسية في ألمانيا مع جوته صاحب( فاوست) الذي اشترى منه الشيطان روحه مقابل سيطرته على العالم وتملك القوة. وتعد هرناني Hernani (1830)لفكتور هيجو نموذجا رومانسيا يوضح لنا رؤية هوجو تجاه المذهب الكلاسيكي. ففي هذه المسرحية نجد عقدتين: سياسية وعاطفية، وتقع في عدة مواقع وأمكنة: تارة في ساراغوس، وتارة في جبال أراغون، وتارة أخرى في إيكس لا شابيل Aix- la Chapelle أي بين إسبانيا وفرنسا، وتمتد الرواية كذلك عبر شهور عدة، والمحاكاة مهملة فعلا في هذه المسرحية التي تعلن بداية المسرح الرومانسي.وهذا ينطبق أيضا على مسرحيته روي بلاسRuy Blas( 1838)؛ بيد أن مسرحيته بورﭽراف Les Burgraves (1843) تشكل نهاية المرحلة الرومانسية.

7- المدرسة الطبيعية:

تستند هذه المدرسة التي ظهرت مع إميل زولا سنة1880 إلى العلوم البيولوجية والفلسفة التجريبية وأعمال داروين وكلود برنار وتين. ويقرن زولا الأدب بالملاحظة والتجريب؛ وذلك بدراسة الشخصية في إطارها المكاني والزماني باستعمال التجربة وتكرارها قصد ملاحظة السلوك الإنساني الذي يخضع لما هو فردي واجتماعي قصد الوصول إلى الحقيقة والمعرفة الصادقة في فهم الشخصية وتفسيرها. أي أن الفن الطبيعي هو الذي ينقل لنا الأحداث كما تقع في الطبيعة ودراسة آلياتها مع التحكم فيها من خلال تغيير العوامل المكانية والظرفية دون إبعاد قوانين الطبيعة. وكل هذا من أجل معرفة الإنسان معرفة علمية بسلوكه الفردي والاجتماعي ودراسة أهوائه ونوازعه.

وقد بنيت الدراما الطبيعية على الاستقراء السيكولوجي والملاحظة الموضوعية لإيجاد حلول علاجية لشخصيات مرضية كأن المسرح علاج وشفاء تطهيري للأفراد والجماعات. وأصبح المسرح يبحث عن العلاج لكل الأدواء والجروح الاجتماعية. وكانت المسرحيات تقدم الحياة في ثوبها الطبيعي ولكن بطريقة فنية. وكانت كل العناصر الدرامية في المسرح الطبيعي تسعى إلى تطوير فعالية رسم القيم والأخلاق كما نجد في نصوص هنري بيك Henry Becque.
ومع المدرسة الطبيعية، ظهر المخرج بالمفهوم المعاصر. أما قبل ذلك، فكانت العملية الإخراجية يتكلف بها الكاتب أو الممثل الرئيسي حيث يقرأ النص ثم يوجه الممثلين أو الديكوري ويطبع لمجموعة العرض أسلوبا منسجما مرتجلا. ولقد فرض تعدد الاختصاصات والبحث عن الواقعية الحقيقية وتطفل الكتاب على المسرح إيجاد مخرج متخصص في المسرح. ويعد دوق جورج الثاني Duc George بساكس مينشن Saxe- Meiningen بألمانيا الذي كان يسير مسرحه بمينشن أول مخرج حقيقي إذ كان يعتمد أسلوبا سلطويا وكان له تاثير على عدة أجيال. وفي فرنسا، يعتبر أندري أنطوان André Antoine أول مخرج مسرحي الذي أخرج للمسرح الحر عدة مسرحيات طبيعية وكان يوجه ممثليه إلى تدقيق التفاصيل والسير بهم نحو تقليد وفي للحياة.
وقد ساهمت الواقعية السيكولوجية في تطوير المسرح ودراسة الشخصية دراسة سيكواجتماعية ولاسيما الشخصيات المعقدة والمركبة مع النرويجي هنريك إبسن Henrik Ibsen والسويدي أوغوست شتريندبرغ August Strindberg اللذين يعدان المؤسسين الحقيقيين للمسرح المعاصر. وفي روسيا، ازدهر المسرح الواقعي في القرن 18م مع أوطروفسكي Ostrovski وجوجول Gogol؛ بيد أن الواقعية ستهيمن على المسرح الروسي مع نهاية القرن التاسع عشر الميلادي حيث سنجد مجموعة من الطبيعيين أمثال:ليوتولوستوي وماكسيم كوركي وأنطوان تشيكوف وكذلك قسطنطين ستانيسلافسكي الذي أنشأ مسرح الفن بموسكو، وطور طريقة في التمثيل تعتمد على الاقتصاد في الإكسسوارات والتمسك بالواقعية الحقيقية في إظهار العواطف الحقيقية لدى الممثلين كما قدم مسرحيات طبيعية، ولا ننسى كذلك تشيكوف الذي حقق نجاحا كبيرا.

8- المدرسة الرمزية:

ظهرت الرمزية بعد هزيمة حرب1870 و مع الثورة ضد القيم البورجوازية المادية والتأثر برؤية الموسيقي الألماني ريشارد فاجنرRichard Wagner.
و يرى فاجنرأن الكاتب الموسيقي الدرامي عليه أن يرسم عالما مثاليا، وأن يخلق أساطير على غرار المسرح القديم، وأن يثير العالم الروحي الداخلي للشخصيات المرصودة، وألا يتم التركيز فقط على المظهر الخارجي. وكانت لهذه الآراء أثر كبير في الأوساط المثقفة في فرنسا سنة 1880؛ مما ساهم في إفراز تيار أدبي رمزي يدعو إلى اللامسرح الذي يعتمد على الروحانيات وتداعي اللاشعور واستعمال الصور الرمزية والإيحاءات الحدسية الانزياحية مع توظيف إيقاع بطيء واستقراء ما هو مضمر في النفس الإنسانية والتمرد على الواقع والجنوح نحو اللاعقلانية. ونستحضر بالخصوص نصوصا ما بين1890/1900 لموريس ماتيرلنك Maurice Maeterlinck أو بول كلوديل Paul Claudel ونصوص تشيكوف وإبسن أو ستريندبرغ. وقد ساهمت أفكار الرمزيين في بلورة نظريات السويسري أدولف آبياAdolph Appia والمخرج البريطاني إدوارد غوردون كرايج Edward Gordon Craig الذين ثارا ضد واقعية الديكورات الملونة مقترحين عناصر موحية ومجردة مع استعمال لعبة الإضاءة لخلق الانطباعات بدل الإيهام بالواقع.وفي 1896، قام المخرج الرمزي لونيي بو بتركيب مسرحية ألفريد جاري Alfred Jarry (أبو ملكا Ubu Roi) وهي مسرحية مهيجة وشاذة.

9- المدرسة الانطباعية:

نشطت الحركة الانطباعية بألمانيا في سنوات1910 -1920 مصورة المظاهر القصوى والغريبة للروح الإنسانية خالقة عالما من الكوابيس المزعجة. ومن الناحية السينوغرافية، تتميز التعبيرية بالانزياح والشذوذ والمبالغة في الأشكال واستعمال الظلال والأضواء بشكل إيحائي. ومن النماذج التمثيلية لهذه التعبيرية نجد جورج قيصر Georg Kaiser وإرنست طولر Ernst Toller. وقد طبق أوجيل أونيل Eugene O’Neill هذه الطريقة منذ سنة 1930 في الولايات المتحدة الأمريكية وخاصة في( الإمبراطور جون) و( الغريب الفاصل) قصد توظيف سيكولوجية الشخصيات بشكل أفضل.

10- المدرســــــة الدادية:

لم تظهر الدادية إلا كرد فعل على ويلات الحرب العالمية الأولى التي دمرت الإنسان الأوربي، و كرد فعل أيضا على العقل الغربي الذي استلب الإنسان الأوربي وجعلته بدون إرادة وحرية، ولم يجد له حلولا شفائية لمشاكله الروحية؛ لذا التجأت هذه المدرسة إلى التغني باللاعقلانية والثورة على الواقع الموبوء بالحروب والدمار والخراب. ويعد الأديب الروماني تسارا أحد المبلورين لهذا المذهب سنة 1917م بعد أن اجتمع بمجموعة من الفنانين والأدباء بزيوريخ بسويسرا ناقمين على العقل الواعي والحروب الطائشة التي أرجعت العالم إلى عهد الطفولة( كلمة دادا كلمة طفولية تقولها الأمهات للأطفال عند تعليمهن المشي لهم) قصد إظهار موقفهم بكل صراحة من هذه الحرب الطاحنة. وشكل هؤلاء المنعزلون عن الحرب الغاشمة حركة الدادية.

11- المدرسة السريالية:

تبلورت هذه المدرسة كرد فعل على التيار الواقعي والطبيعي، وامتحت تصورها من سيكولوجية فرويد ومن اللاشعور والعقل الباطن واستلهام الذاكرة والأحلام. وظهرت هذه الحركة في سنة 1919 ونضجت في العشرينيات. ومن مبادئها التسلح باللاوعي واللاعقلانية وأن الحقيقة هي التي يعبر عنها العقل الباطن والأحلام و ذلك بالتحرر من سيطرة العقل والوعي والمنطق. وقد أعطيت الأهمية الكبرى للنفس الإنسانية واستنطاق اللاوعي؛ لذلك تعتبر الفن نابعا من الفوضى والهذيان على غرار التحليل السيكولوجي القائم على تداعي المعاني تداعيا حرا بدون رقابة أو محاسبة عقلية واعية من قبل الأنا الأعلى. ومن المنظرين لهذا المذهب الأدبي أندريه بريتون André Breton الكاتب الفرنسي الكبير، ومن رواده أيضا لويس أراغون Louis Aragon وفيليب صوبولت Philippe Soupault وفي مجال الدراما نجد كيوم أبولينير( أثداء تيريزيا)، وروجر فيطراك Roger Vitrac( فيكتور أو أولاد السلطة)، ونجد كذلك جان كوكتو يكتب مسرحية بعنوان( الآباء المفزعون) تسير في الاتجاه السريالي الثائر على الواقع الموجود.

12- المدرسة المستقبلية:

المستقبلية أو المستقبليون عبارة عن مدرسة فنية وجمالية وأدبية إيطالية انطلقت في باريس في سنة 1909 على يد مارينيطي Marinetti الذي كان يمجد الحركة والمستقبل والتقنية والحداثة. وقد استفادت الفنون بهذه الحركة من بينها المسرح والتشكيل الذي برع فيه كل من بالا Ballaوبوكشيوني Boccioni وسيفيريني . Severini. وفي روسيا، هي حركة أبية ظهرت ما قبل الحرب مع موياكوفسكي MAIAKOVSKI.

13- مسرح التغريب:

ظهر مسرح التغريب مع المنظر الألماني بريشت BRECHTكرد فعل على المسرح الواقعي. ويرى بريشت أن الفن الدرامي وسيلة لتحويل المجتمع ووسيلة سياسية قادرة على تحريك الجمهور والسير به في السياق الاجتماعي.وبهذا المنطق، كتب بريشت نصوصا ملحمية ( عكس النصوص السردية) التي تستدعي مشاركة الجمهور المتفرج لتقديم أحكامه العقلية على العروض المسرحية عن طريق عملية التغريب.وكان يعتمد بريشت صاحب المسرح الملحمي السياسي على المسرح الفقير الذي يخلو من الديكورات المترفة، ويستند كذلك إلى عارض سينوغرافي شفاف مع التقريب بين المشاهد القصيرة ومزجها بتدخلات خارجية. ومن أعمال بريشت نجد:(أوبرا كاتسوQUAT’SOUS) المعروضة سنة 1928 و(الأم الشجاعة وأطفالها ) المكتوبة في سنة 1941.

14- مسرح أنطونين آرطو:

ساهم الكاتب الفرنسي والدرامي أنطونين آرطو Antonin Artaud في كتابه "المسرح ومضاعفه" Le Théâtre et son doubleفي تجديد المسرح الغربي. وحسب آرطو، المجتمع مريض ويستلزم الشفاء العاجل؛ ولكن ليس بواسطة السيكولوجيا، بل بواسطة مسرح روحاني. والمسرح الصافي عنده هو مسرح يهدم الأشكال القديمة ويبرز حياة منبعثة. كما يعتمد آرطو على الاستفادة من المسرح الشرقي والموروثات البدائية وتجديد اللسان المسرحي مع تدشين « مسرح القسوة" Théâtre de cruauté مع زعزعة المتفرجين وإعادة رسم الحدود الفاصلة بينهم وبين المتفرجين مع تصغير أو إزالة الخطاب وتعويضه بالأصوات والحركات. ويتبين لنا أن آرطو يدعو إلى مسرح عالمي متعدد الأشكال الثقافية. ولكن ما يلاحظ على آرطو الغموض الفكري والتصوري لأن ليس هناك نموذج درامي يشخص أفكاره الهامة سوى تجربته السيئة الحظ في سنة 1935Les Cenci "لي سينسي"التي أثارت عدة تأويلات وإطالات نقاشية متنوعة غالبا ما كانت متناقضة.

- مسرح ما بعد الحرب:

بعد الحرب، أحس الفنانون بضرورة إقامة مسرح مدني وشعبي وملتزم ومندمج بكل طاقاته القصوى في أحضان الحياة والمدينة.ويمكن أن نعتبر مابين 1947 و1967 سنوات خصبة في تاريخ مسرح القرن العشرين إذ انتعش المسرح الشعبي والمسرح الملتزم ومسرح اللامعقول.
وفي 1947، نشأ مهرجان أفينيون Avignon بفرنسا يديره جان فيلارJean Vilar محاطا بمجموعة من كبار الممثلين مثل: Alain Cuny, Gérard Philipe, Silvia Monfort, Maria Casarès, Philipe Noiret, Jeanne Moreau وآخرين. وكل هؤلاء انصهروا في بوتقة حركة إصلاح الفن الدرامي نحو لا تركيز مسرحي.
وإذا كان فيلار يسعى إلى تأسيس مسرح شعبي فإن هناك من كان يخوض في قضايا الالتزام لاسيما المذهب الوجودي مثل: Jean – Paul Sartre, Albert Camus, George Bernanos, Jean Genet, Aimé Césaire.
وفي بريطانيا، نجد مسرحية سلام الأحد(1956) ل John Osborne اتخذت مثل رمز للشباب الغاضب لسنوات الخمسينيات. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، اشتهر المسرح الحياتي الذي أنشأه كل من:Julian Beck, Judith Malina القائم على قواعد فنية درامية جديدة قصد تأسيس قطب المعارضة و صالة للاثقافة.
وفي ألمانيا، كتب مجموعة من الكتاب عروضا درامية وثائقية متأثرين في ذلك ب Brechtمركزين على قضايا سياسية وأخلاقية واجتماعية تتعلق بالفرد. وهنا نستحضر حالة القسيس(1963) ل Rolf Hochhuth الذي يحاكم فيه الكاتب الصمت المسؤول للبابا Pie 12 إبان الحرب العالمية الثانية.

- 16 مسرح اللامــــــــعقول:

يعد مسرح اللامعقول من أهم الحركات المسرحية الطليعية في القرن العشرين. وقد تأثرت الحركة بالفلسفة اللاعقلانية وأدب الغرابة والسريالية والدادية ووجودية سارتر. ومن رواد هذا الاتجاه المسرحي صمويل بيكيتBeckett، ويونيسكو Ionesco وأرابال Arrabal وأداموف Adamov. وقد عرف مسرح اللامعقول أوجه مع سنوات الخمسين وبقي تأثيره حتى سنوات السبعين. وينبني هذا المسرح على الغرابة والشذوذ واللامنطق وانعدام الترابط السببي حتى في اللغة واستعمال لغة الصمت واللاتواصل والحركات السيميائية الموحية. إنه مسرح يعبر عن لا معقولية هذه الحياة، ويفتقد العقد التقليدية وتنعدم فيه الحلول كما هو الحال بالنسبة لمسرحية بكيت في (انتظار غودو) ناهيك عن غموض أفكار هذا المسرح وإيغاله في التجريد الرمزي وتكسير الوحدات الأرسطية والعبث بها كما نجد ذلك في (الحبل المتهدل) لأرابال و(الكراسي) ليونسكو ومسرحية (الغرفة). وقد ينعدم الحوار في هذه العروض الدرامية اللامعقولة إذ لا تتكلم الشخصيات إلا بحوار غامض أو متقطع أو بكلمة أو بكلمتين أو يكون كلاما مبهما بل نجد شخصيات صماء وخرساء مثل مسرحية( النادل الأخرس).
ومن الذين تأثروا بهؤلاء الدراميين نجد Edward Albee الأمريكي الذي قدم عروضا لا منطقية وغير مفهومة على غرار كتاب مسرح اللامعقول الأوربي. كما يشبهه في ذلك Harold Pinter في مسرحية (العودة) سنة 1964.

17- المــــسرح الجديد:

لقد ساهمت أفكار أنطونين أرطود في ظهور المسرح الجديد في سنوات العقد السادس من القرن العشرين الذي جسده مسرح مختبر Wroclaw للبولوني Jerzy Grotowski، وكذلك ورشة مسرح القساوة ل Peter Brook، وكذلك أيضا مسرح الشمس ل Ariane Mnouchkine والمسرح المفتوح ل Joseph Chaikin.
ويرتكز هذا المسرح الجديد على العمل الإبداعي الجماعي للممثلين بدلا من الارتكاز على النص، وتحضر المشاهد الدرامية بعد أشهر عدة من العمل مع التركيز على الحركات والإشارات والأصوات واللغة غير المسننة وعلى فضاء غير عادي ولا طبيعي. ومن النماذج التمثيلية لهذا النوع من المسرح نذكر Marat Sade ل Peter Weiss..

18- المسرح المعاصر:

إذا كانت الطبيعية قد تم تجاوزها بعد الحرب العالمية الأولى فإن الشكل الواقعي استمر يهيمن على المسرح المؤسساتي. لكن هذه الواقعية ليست سيكولوجية بل إعادة بناء واقعية للحقيقة الاجتماعية.ومن النماذج الممثلة لها في الولايات المتحدة الأمريكية نذكر Arthur Miller , Tennessee Williams, Eugene O’Neill.

وقد تطور المسرح الأمريكي في سنوات الخمسين بفضل أستوديو الممثلين الذي أنشأه كل من Elia Kazan, Lee Strasberg. وكون هذا الأستوديو مجموعة من الممثلين الأمريكيين المشهورين مثل: James Dean, Marlon Brando, Marilyn Monroe, Paul Newman, Elizabeth Taylor. وقد اعتمد ستراسبرغ في منهجيته الدرامية على نظريات ستلانيسلافسكي Stanislavski، وأعطى الأولوية للإحساس والبحث عن لعبة حية عصبية وطبيعية. وسمحت هذه التقنية في العمل للممثل لكي يتحرر من سيطرة النص والمخرج وأن يرتجل كلامه، وأصبح هذا الارتجال اليوم مرحلة مهمة في العمل المسرحي.

وإلى جانب هذا المسرح، ظهرت مسارح جانبية في الولايات المتحدة الأمريكية كمسرح الشارع وورشات المسرح الطليعي الذي مثله فنانون مهمشون اكتفوا بالمسرح الفقير، وقدموا عروضهم في المقاهي والكنائس والملاعب.
وفي أوربا وأمريكا، بدأ الاهتمام بالإخراج المسرحي خاصة مع سنوات العقد السبعيني وذلك بتطوير السينوغرافيا وإعادة قراءة النصوص الكلاسيكية على ضوء قراءات درامية جديدة أدبية وسياسية واجتماعية ودراماتورجية.

خاتمــــــــــــــــة:

من الصعب معرفة المسرح أو ممارسة طقوسه وعروضه التمثيلية أو كتابة النصوص والنظريات إذا لم يستوعب الإنسان الفعل المسرحي وتاريخه وتاريخ حركاته الأدبية والفنية ومدارسه عبر تسلسله الزمني قصد معرفة الثوابت والمتغيرات والسياق الإيديولوجي والاجتماعي والظروف التي أفرزت تلك المدارس وساهمت في خلق مبادئها ومرتكزاتها الدلالية والفنية والجمالية.

16 juillet 2021

الأجناس الأدبية

- تعريف الرواية

maxresdefault

تتضارب النظريات وتختلف حول إعطاء تعريف عام لمفهوم الرواية ، لأن أدب الرواية مازال في طول التشكل والتكوين المتواصل
ويرى بعض النقاد أن الرواية هي جنس أدبي نثري ، يقوم على الحكي القصصي المرتكز على الخيال
وذهب هؤلاء النقاء إلى ربط هذا الفن بالمجتمع الغربي ونشأة النظام الرأس مالي هناك وصعود الطبقة البرجوازية وهيمنة قيمها
كالحرية – اي اللبرالية بشتى أنواعها – والايخاء المساواة .. وقد برز روائيون كبار مثل
balzac-Emile Zola-
إن الرواية كعمل سردي متخيل يتضمن مقومات عديدة منها الأحداث والوقائع التي قد تكون متسرسلة
في الرواية او موزعة عبر فصول مستقل بعضها عن بعض نسبيا ، وقد تكون تلك الأحداث مرتبطة بشخصيات معينة و مقسمة الى احداث رئيسة
واخرى ثانوية ولكل منها دلالاتها . وكما تتعدد الاحداث تتعدد الشخصيات وتتنوع ، منها ما يحمل دلالات اجماعية وفكرية وثقافية او نفسية ، وتساهم هي ايضا – الشخصيات – في بناء الحدث الروائي ونموه ، فيعمل الروائي على رسم ووصف الشخصيات وطبائعها وتقديم مواقف

IMG_5544

 نشأة الرواية في العالم العربي
إن الرواية العربية كشكل أدبي متطور لم تظهر في عالمنا العربي إلا مع بداية الاجتياح
الاستعماري لأقطارنا المشرقية ، وبالتحديد أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين .
إذ بدأت تبرز – ولو بخجل شديد – المحاولات الروائية الأولى عند بعض كتاب
العرب المسيحيين ، وعند أولئك العائدين من البعثات والرحلات العلمية والرحلات إلى أوربا وخاصة فرنسا .
إن نشأة الرواية كان بفعل الاحتكاك بالأدب الغربي وثقافته ، ومن بين هؤلاء الكتاب نذكرعلى سبيل المثال :
فرح أنطون – نقولا حداد – جورجي زيدان – حسين هيكل وخاصة في روايته زينب التي تعد البداية الحقيقية
للرواية العربية المبتكرة ، إذ بعد نشرها سنة 1914 شاعت الرواية في أقطارنا العربية – مقتبسة او مترجمة -
واتخذت مسارات متعددة غنية ومتطورة بفعل تطور المجتمع العربي . وانتشرت خاصة الروايات ذات الطابع العاطفي والرومانسي
كـ : سارة للعقاد ودعاء الكروان لطه حسين وعودة الروح لتوفيق الحكيم …إلخ
وتوج هذا التراكم الروائي بظهورالعديد من روايات نجيب محفوظ الذي يعتبرالأب الروحي للرواية العربية دون منازع
……………………
الرواية العربية الحديثة
جذورها – تطوراتها – اتجاهاتها
1- القصة في الأدب العربي القديم
قبل الخوض في موضوع الرواية و دراسة التحولات و التطورات التي طرأت عليها، يحسن بنا أن نصدّر كلامنا ببحث حول القصة عند العرب، و نطرح فيها أسئلة علي غرار كل من دخل غمار هذا الموضوع، هل عرف العرب القصة؟ و هل هي وجدت عندهم؟
وقبل الجواب عن هذين السؤالين يجدر بنا أولاَ أن نوضّح موقفنا من القصة؛ هل القصة بمعناها اليوم؟ أو القصة بمعناها الذي كان سائداً عند جميع الشعوب في شكلها الشعبي؟
إذا أردنا القصة بمعناها اليوم فإنها لم تكن موجودة قديماً، و أما إذا أردناها بالمعني الذي كان سائداً في الآداب العالمية في شكلها الشعبي و الفطري، فإنها قد كانت معروفة عند العرب منذ زمن قديم، و لها تاريخ عريق من هذه الناحية، و ذلك يتبين لنا بوضوح إذا ألقينا نظرة عابرة علي الأدب العربي، فالعرب منذ العصر الجاهلي كان لهم قصص و أخبار تدور حول الوقائع الحربية، و تروي الأساطير القديمة.
وعندما ظهر الإسلام و نزل القرآن جاءهم «أحسن القصص» ثم تكوّنت علي هامش القرآن و تفسيره قصص و حكايات استمدت موضوعاتها و عناصرها من تعليم الدين الجديد، فظهرت قصص الأنبياء و قصص المعراج و سير النبي و... .
وقد شهدت القصة نموّا بارزا بعد ظهور الإسلام، و ذلك لاهتمام القرآن بها في بثّ معاني الدعوة الاسلامية و نقل الأخبار و الأحداث التي وقعت في الأمم الماضية اعتباراً وعظةً للناس في عصر النبي من المسلمين و المشركين.
وعندما نصل إلي العصر الأموي نري القصة ظفرت بعناية كبيرة حيث صارت مهنة رسمية يشتغل بها رجال يسألون عليها الأجر، و هذا ما دفع الرواة علي الخروج إلي البادية لتأليف الروايات و جمع أخبار الأحباء والشعراء العاشقين كقصة عنترة و عبلة، ليلي و مجنون، جميل و بثينة، كثير و عزّة و غيرهما.
وقد تطورت القصة في العصر العباسي تطوراً ملحوظاً، إذ بدأت طائفة كبيرة من الكتاب ينقلون القصص الأعجمية إلي العربية حيث بلغت حوالي ستين ترجمة، و من أشهرها «كليلة و دمنة» لعبدالله بن المقفّع حيث فتح باباً جديداً في الأدب القصصي العربي، و صار نموذجاً مثالياً سار علي منواله كثير من الكتاب المتأخرين الذين صاغوا أفكارهم الفلسفية علي لسان الحيوانات؛ و من القصص الأخري الهامة «ألف ليلة و ليلة» من أصل هندي أو ايراني، و قد أثّر هذا الكتاب في الأدب القصصي الجديد تأثيراً كبيراً لِمَا فيها كثير من العناصر القصصية الجديدة.
ومن القصص المؤلّفة التي صاغها العرب أنفسهم هي «البخلاء» للجاحظ، و قد صوّر فيها أخلاق فئات من الناس، و هم البخلاء، متعرّضاً لهم آخذاً عليهم، ثم رسالة «التوابع و الزوابع» لابن شهيد الأندلسي و هي قصة خيالية موضوعها لقاءات مع شياطين الشعراء، ثم «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري، و هي قصة خيالية موضوعها سفر خيالي إلي الجنة و الجحيم، لقي فيه أبوالعلاء شعراء الجنة و الجحيم، وانتقد من خلاله الشعر في العصر الجاهلي و الاسلامي. و قد تميزت هذه الرسالة بخيال خصب كما قال طه حسين، حيث جعلها في عداد الآثار النادرة.
وأما المقامات فهي أقرب الأنواع القصصية في الأدب العربي إلي القصة الفنية الجديدة، و اعتبرها بعض المستشرقين أول مظهر للقصة العربية، و هي قصة قصيرة تدور حول مغامرات بطل موهوم يرويها راوٍ معين، غايتها تعلمية؛ و قد أجمع المؤرخون علي أن بديع الزمان هو مبدع المقامات، و من أعلامها بعده هو الحريري.
وإضافة إلي هذه الأعمال القصصية نري القصة واصلت سيرها في تضخم و كثرة، و دخلت فيها الرحلات (رحلة ابن جبير و ابن بطوطة) والخرافات و سير الأشخاص (سيرة عنترة و سيرة بني هلال ) و... .
والذي يمكن أن نقول بعد هذا الاستقراء العابر في الأدب العربي القديم حيث واجهتنا مجموعة هائلة من التراث القصصي إن العرب كانوا بفطرتهم ميالين إلي القصص و الأخبار، و أن القصة بمفهومها السائد و العادي قد وجدت عندهم منذ زمن قديم حتي قيل إن الغربيين كانوا في بدء نهضتهم مدينين للقصص العربية القديمة، و أنهم لم يعرفوا القصة قبل اطلاعهم علي أمثال «ألف ليلة و ليلة»، و «السند باد » و... .
ونخلص من هذا كله إلي القول بأن القصة العربية نشأت و تطورت، شأنها في ذلك شأن الآداب الأخري تحت ظروف و عوامل متشابهة حسب المعتقدات و الأساطير و...، و أن الأدب العربي القديم بما فيه تراث قصصي عظيم من القصص القرآنية، و قصص الأنبياء، و سير النبي، والمقامات، والرحلات، والقصص الخيالية، والتراجم الذاتية و... قد ترك تراثاً ضخماً في مجال الأدب القصصي، و هو الذي أثّر تأثيراً بارزاً – في رأي بعض المعاصرين – في نشأة الأدب القصصي الغربي و تطوره فيما بعد.
ومع هجمة التتار و سقوط الخلافة العباسية بدأت فترة الانحطاط الأدبي في الأدب العربي؛ الأمر الذي أدّي إلي خمود الحركة الأدبية من جهة، و التشاغل عن حفظ هذا التراث الضخم من جهة أخري، و لذلك قلما نشاهد في هذه الفترة التي امتدت ستة قرون إبداعاً بارزا في مجال القصة.
2- القصة في الأدب العربي الحديث
هنك اختلاف رأي بين العلماء المحدثين في نشأة القصة العربية الحديثة؛ فمن يتحمّس منهم لأصلها العربي و يري أنها وليدة التراث القديم و استمراراً له، و من ينفي أن تكون هنك أية صلة بين القصة الجديدة و بين تلك الأنماط القصصية القديمة، و يراها أنها وليدة الإحتكك بالغرب و التعرّف إلي نتاجه القصصي و نقله إلي العربية.
وإذا فحصنا في القصة العربية المعاصرة، و هي فن جديد يختلف شأنها عن شأنها القديم، اتضحت لنا أنها مرّت بثلاث مراحل أساسية ظهرت في كل منها مجموعة هائلة من أنواع القصة، و هي:
أ- مرحلة التقليد و التعريب (1850-1914).
ب- مرحلة التكوين و الإبداع (1914-1939).
جـ- مرحلة التأصيل و النضج (1939- حتي الآن).
أ: القصة العربية في مرحلة التقليد و التعريب
وعلي الرغم من أن غالبية الباحثين قد أنكرت الصلة بين القصة العربية الحديثة و بين التراث القصصي عند العرب، إلا أن هذا الارتباط موجود بشكل بارز في صياغة الشكل و المضمون، إذ بدت القصة الحديثة في بدء تطورها متأثرة بالأجناس القصصية المأثورة كالتراجم و المقامة و...، ومن أوضح أمثلتها للتأثر بفن المقامة هو «حديث عيسي بن هشام» للمويلحي (1900) حيث يبدو فيه التأثير العربي واضحاً في العناية بالأسلوب و الأحداث التي تحدث للبطل الذي يتصل بشخصيات متعددة، كما أن الأثر الغربي أيضاً يبدو فيه جلياً من حيث تنويع المناظر، و تسلسل الحكاية، و بعض ملامح التحليل النفسي.
ومن المؤلَّفات الأخري التي وضعت علي أسلوب المقامة قصة «علم الدين» لعلي مبارك، و يدور موضوعها حول عالم منوّرالفكر، اسمه «علم الدين»، يلتقي بسياح إنجليزي، و يذهب معه إلي أروبا، فيقيسان العادات و التقاليد الشرقية والغربية مرجِّحَينِ تارة هذا علي ذلك، و علي العكس؛ فالتأثر بأسلوب المقامة يبدو واضحاً في هذه القصة.

61TO+g+4EBL

ومنها «السّاق علي السّاق» لأحمد فارس الشدياق، و هي شبيهة بالتراجم الذاتية تحدّث فيها الشدياق عن مراحل حياته و أسفاره علي أسلوب المقامات، و غايته إبراز مقدرته علي استعمال الكلمات الغربية، و ذكر محاسن النساء و مثالبهن.
والتأثر بأسلوب المقامة ساد فطرة طويلة كثر مؤلّفات عصر النهضة، و ذلك أن الكتّاب يحاولون بناء الأسس القصصية الجديدة علي أساليب القصة القديمة لحرصهم علي عدم ضياع تراثهم، و لذلك نراهم صنعوا مؤلّفات علي غرار المقامات متأثّرين بها في القالب كأحمد شوقي في «عذراء الهند» (1897)، موضوعه إشارات إلي تاريخ مصر القديم، و حافظ ابراهيم في «ليالي سطيح»، موضوعه انتقادات من أوضاع مصر، و محمد لطفي جمعة في «ليالي الروح الحائر» (1907)، و موضوعه نقد الظروف الاجتماعية في مصر.
وفي أواخر القرن التاسع عشر ظهرت موجة جديدة في الأدب القصصي الحديث، و ذلك إثر ترجمة القصص الغربية، و قد نمت هذه الموجة في مصر و لبنان، و كان أصحابها توّاقين إلي الأدب الغربي مشيدين به، فراحوا يترجمون القصص الغربية التي كانت موضوعاتها في الأغلب موضوعات رومانتكية حول الحبّ و الجنس دون أن ينتبهوا إلي الآثار السلبية التي تتركها هذه القصص في العقيدة و الثقافة العامة، و في نفس الوقت أن هؤلاء الكتاب أنتجوا مؤلّفات قصصية منقطعة عن الجذور العربية، مطبوعة بطابع التقليد للقصة الغربية تغلب عليها نزعة رومانتيكية، و الغاية منها التسلية.
وقد بدأت هذه الموجة علي يد اللبنانيين؛ منهم سليم البستاني الذي اعتبر الرائد الأول لهذا التيار، فقد ألّف في فترة قصيرة فيما بين 1848 إلي 1884 عدداً كبيراً من القصص تراوحت موضوعاتها بين التاريخ و الاجتماع، و نشرها في مجلة «الجنان»؛ و من قصصه «الهيام في جنان الشام (1870)»، موضوعها قصة بين رجل و فتاة يلتقيان تارة و يفترقان تارة أخري»؛ «زنوبيا (1871)»، موضوعها تذكار تاريخي لموجبات الصراع بين ملكة تدمر و بين الرومان؛ «بدور (1872)»، موضوعها حول أميرة أموية عشقت عبدالرحمن الداخل؛ «أسماء (1873)، موضوعها قصة رجال أحبّوا فتاة، و كلّ منهم يحاول أن يجبلها إليه؛ «فاتنه (1877)»؛ «سلمي (1878)»؛ و «ساميه (1882)».
وبما أن سليم البستاني كان صحفياً فقد اهتمّ بتناول مختلف الموضوعات في قصصه من تاريخ و جغرافيا و اجتماع و فلسفة و رحلات و...، شأنه فيها شأن مجلته من حيث تناول الموضوعات المختلفة، كما أنه بحكم عمله اتجه نحو تبسيط اللغة و الاقتراب من أسلوب اللغة الدارجة مما أوقعاه في الضعف و الرككة أحيانا.
والذي يجدر ذكره أن للصحف دوراً بارزاً في نشوء القصة العربية و اتساع دائرتها و التقدّم بها إلي الأمام، فقد ظهر في فترة غير طويلة عدد كبير من الصحف و المجلات كصحيفة «الأخبار»، «وادي النيل»، «البشير»، «الأهرام»، «المقتطف» ، «الهلال» و... وقد خصّص كل منها قسماً للقصص الموضوعة و المترجمة، أو مجلات نصف شهرية اقتصرت علي نشر القصة و الرواية، منها «سلسلة الفكاهات في أطايب الروايات»، «حديقة الأدب»، «مسامرات الشعب»، «الروايات الجديدة»، و... .
ومن أعلام القصة و الرواية في هذه المرحلة فرح أنطوان (المدن الثلات، الوحش الوحش الوحش، أورشليم الجديدة)، نقولا حداد (النص الشريف، كله نصيب، حواء الجديدة، آدم الجديد)، يعقوب صروف (فتاة مصر، أمير لبنان، فتاة الفيوم)، لبيه هاشم (قلب الرجل)، طاهر حقي (عذراء دنشواي)، منفلوطي (العبرات و النظرات) و... .
وصفوة القول في القصة و الرواية العربية في هذه المرحلة أن أعمال هؤلاء الكتاب كانت في أغلبها تقليد للقصة الغربية، يغلب عليها السرد التاريخي أو الاجتماعي دون ارتباط بمذهب فني واضح، و لم يكن أحد من هؤلاء الكتاب قاصاً متخصصاً، بل كانت القصة فنّا و عملاَ ثانوياً بالنسبة إليهم، و بالنسبة إلي المهنة التي يعملونها، و هو العمل الصحفي؛ فسليم البستاني و فرح أنطوان، و نقولا حداد، و يعقوب صروف، و جرحي زيدان و... كانوا يصدرون مجلات شهرية، و كانت القصة المتسلسلة تمثل جزءاً من هذه المجلات. و لهذا فإن العمل القصصي في هذه المرحلة ينقصه التخصص و فنية العمل، و هو عند هؤلاء تقليد للاتجاهات الغربية، و ليس منبعثاً انبعاثاً حقيقاً من البيئة العربية.
ولكن هنك ظاهرة فنية يجدر الوقوف عندها، و هي الجهود الروائية للذين مضوا إلي المهجر، فأتيح لهم الإطلاع علي النماذج القصصية الغربية بكمل وجه، فتأثروا بها فنضجت أعمالهم حيث تختلف عن النماذج القصصية في البلد العربي، فلا شك أن إنتاجات جبران من القصة و الرواية كـَ«عرائس المروج (1906) و.«الأرواح التمردة (1908)»، و «العواصف (1910)»، و «الأجنحة المتكسرة (1912)» و... كان لها طعم جديد، إذ يبدو فيها روح التمرد علي عوامل الجمود و موانع التطور، أو أن ما صدر عن أمين الريحاني كرواية «خارج الحريم» تختلف كثيراً من ناحية تعقّد الأحداث، أو رواية «زنبقة الغور» فإنها تمثل تطوراً ملحوظاً عن نماذجها السابقة.
ثم من الذين هاجروا إلي خارج الوطن العربي و كتبوا فيه، و خرج نتاجهم ثمرة لتزواج المجتمعين العربي و الأروبي، الدكتور محمد حسين هيكل الذي نشر رواية «زينب (1914)» حيث اعتبرت هذه القصة في رأي البعض بأنها بشّرت مرحلة جديدة في القصة العربية، ألا و هي مرحلة التكوين القصصي العربي.
ب- مرحلة تكوين القصة العربية الحديثة (1914-1939)
إن فترة ما بين الحربين العالميتن اعتبرت مرحلة تكوين الأدب القصصي و الروائي عند العرب، فالحرب العالمية الأولي و ما تبعها من أحداث و تحولات في تركيب المجتعمات العربية، و من تغيير في القيم و الموازين، و من تطور في الثقافة و السياسة و الوعي القومي و الانتفاضات الوطنية و...، كل هذه خلقت جوا جديداً و ذوقاً مختلفاً عن سابقه، و تطلّبت بناءً و أسلوبا جديداً للتعبير عن هذه التحولات الجديدة.
وكما أشرنا سابفاً أن اللبنانيين كانوا من رواد القصة في الفترة الأولي، لكن في هذه الفترة إثر هجرة اللبنانيين إلي مصر و... بسبب الحروب و الفتن الداخلية، انتقلت الريادة إلي أيدي المصريين، و بما أن الجيل الجديد منهم أقبلوا علي العلوم الجديدة و تعرّفوا إلي الثقافة الأروبية و اطلعوا علي إيدئولوجيات التحرر و الاستقلال، شكلوا أحزاب سياسية و منظّمات جديدة تهتف بالوعي السياسي و الاجتماعي و التحرر الوطني، كما أسسوا صحفاً تبثّ الاعتزاز بالشخصية المصرية و الروح الوطنية في الشعب حرصاً منهم علي إحياء التاريخ المصري القديم لبثّ روح الأمل في الشعب و الخروج من التخلّفات التي يحسّون بها عند قياس أنفسهم بالبلدان الأروبية، لذلك وسّعوا في نشر الصحف و المجلات، و غيروا المناهج و المنظّمات التعليمية و نسّقوها حسب المناهج و المنظّمات الغربية كما انتقدوا كثيراً من العادات و التقاليد الشعبية التي تمنعهم من الحركة السريعة نحو التقدّم و الرقي.
نعم، كل هذا كوّن مناخاً جديداً و جواً مختلفاً كان يتطلب جيلاً جديداً من الكتاب ليستوعبه و يهضمه و يخرج منه ثمرة جديدة لمجتمع جديد رنا إلي التقدّم و الرقي.
وهكذا أخذت القصة العربية بعد الحرب العالمية الأولي طابع المحلية و القومية، و بدأت تصوّر فئات من المجتمع المصري أو اللبناني أو السوري أو العراقي بغية تحسين فضاء المجتمع.
وفي هذا البحر المتلاطم في مصر ظهر كتاب صوّروا مجتمعهم خير تصوير؛ منهم طه حسين الذي له دور هام في إرساء قواعد الفن القصصي، و من أعماله: «الأيام (1929)»، «أديب (1935)» حيث انتقد فيهما القضايا الاجتماعية و التعليمية و التربوية في المجتمع المصري، و «دعا الكروان (1941)» و... .
ومنهم توفيق الحكيم الذي عني بتصوير الواقع و المشكلات الاجتماعية. و من آثاره: «عودة الروح (1931)»، «يوميات نائب في الأرياف (1937)»، «عصفور من الشرق (1938)».
ومنهم محمود تيمور الذي اهتمّ بقضايا ماوراء الطبيعة و الروحانية الشرقية في رواية «نداء المجهول (1939)»، كما عني بقضايا اجتماعية و نزعات إنسانية في رواية «سلوي في مهب الريح».
ومن أعلام آخرين عيسي عبيد «ثريا (1922)»، طاهر لاشين «حواء بلا آدم (1934)»، محمد تيمور و... .
من الظواهر اللافته للنظر في هذه المرحلة ظهور اتجاه التحليل النفسي و تبيين أثره علي الأدب، و قد حمل لواء هذا الاتجاه العقاد و المازني، و ذلك بتأثرهما بمدرسة التحليل النفسي الغربي، و أرسا أسساً و قواعد في تأليف و تحليل القصص و الروايات. فمن آثار المازني: «ابراهيم الكاتب (1931)»، «ابراهيم الثاني»، «عود علي بدء (1943)»، و...، و من آثار العقاد: رواية «سارة (1938)» التي هي صورة واضحه من منهج العقاد التحليلي.
وقد بدأ الوعي القومي و الإحساس بالشخصية في البلاد العربية بتأثير مصر حيث نري في لبنان ظهرت قصص و روايات علي غرار القصص و الروايات المصرية و عالجت القضايا القومية والمشكل الاجتماعية كرواية «العمال الصالحون (1927)» لإلياس أبوشبكه حيث تصور فيها انتحار طفل في السابعة من عمره ليتخلص من حياة الشقاء التي تسومه إياها امرأة أبيه.
ثم كرم ملحم كرم الذي أنقذ الرواية اللبنانية من هاوية السقوط و أحياها من جديد؛ ومن رواياته: «بونا أنطون (1937)»، «صرخة الألم (1939)»، «الشيخ قرير العين (1944)»، «دمعة يزيد»، «صقر قريش»، «قهقهة الجزائر» و... و قد جمع في رواياته الاتجاه التاريخي و الاجتماعي، إلا أنه يتفوق في الاجتماعية علي نفسه في التاريخية.
ومن أعلام آخرين للقصة و الرواية اللبنانية في هذه الفترة لطفي حيدر، و له رواية «عمر أفندي (1937)»، فقد تصور فيها كوارث اجتماعية للحرب العالمية الأولي.
ومنهم أحمد مكي، و من أعماله «النداء البعيد (1939)»، تتمحور الرواية حول اختلاف الأديان حيث يمنع من زواج متحابين.
ومنهم توفيق عواد الذي اعتبر قمة الروائيين اللبنانيين في هذه الفترة، و من أهم آثاره: «الرغيف (1939)»، و يدور موضوعها حول صراع العرب من أجل استقلالهم.
وأما البلدان العربية الأخري أيضاً فقد خطت خطوات هامة في مجال القصة و الرواية في هذه الفترة، ففي سوريا ظهرت جهود لافتة للنظر، و من أهمها أعمال معروف الأرناؤوط التاريخية كرواية «سيد قريش (1929)»، «عمر بن الخطاب (1936)»، إلا أنها من الناحية الفنية أقرب إلي جهود الفترة الأولي، و إن تمتّ زمنياً إلي هذه الرحلة. كما أن العراق و الأردن والسودان أيضاً لها قصص و روايات، لكنها تقلّ عن البلدان السابقة من ناحية الكمّ و الكيف.
وإذا وقفنا عند الخطوط العامة عند روايات و قصص هذه المرحلة يتبين أنها في مجموعها صورة صادقة عن أفكار الطبقة الوسطي تتمثل فيها الأحلام و الهموم و القيم و الموازين التي تتعلق بهذه الطبقة الجديدة المتوسطة، و من سمات أبناء هذه الطبقة حب الإستكشاف، و حب البحث عن الحقيقة، و الرغبة في المعرفة، و خوض المخاطر و التجارب الجديدة التي لا عهد لهم بها، ثم من سماتهم الأخري التأمل في ملكوت السماوات و الكون، و حب الطبيعة و الشغف بجمالها و... .
والطبقة الاجتماعية التي تناولتها قصص و روايات هذه الفترة بالتصوير و التمثيل هي الطبقة البرجوازية المتوسطة، و لذلك لا نجد فيها تعلقاً بالطبقات الأرستقراطية أو تمثيل عاداتهم و قيمهم، كما لا نجد فيها الصراع الطبقي و التنظيم الإقطاعي و ما يتفرع عليه من تكوين الطبقة الحكمة و الطبقة المستبدة، و طمس فردية الانسان و حريته، بل استبدل كلها إلي أهمية الفرد، و التكيد علي شخصيته و تجاربه و قدرته في التخلص من الكوارث و المصائب التي تعترض سبيله نحو التحرير و الانطلاق و البحث عن المجهول و... .
ومن الناحية الثقافية أيضاً أن أعمال هذه المرحلة ثمرة من ثمرات امتزاج الفكرين الشرقي العربي بالغربي الأروبي و تفاعلهما في شتي المجادلات، كما أنها تمتاز بالتخلص من ثنائية الثقافة و ثنائية الشخصية و ازدواجية المشاعر و انقسام الكاتب إلي شقين في لحظات كتابة القصة و الرواية؛ و ذلك أن الثفاقة الغربية تمثلت و دبّت في فكره و سلوكه، شأنها شأن ثقافته الأصيلة، فتفاعلت الثقافتان و أصبحتا شيئاً واحداً تنتجان ثمرة مشتركة.
والذي يجدر ذكره أن القضايا الاجتماعية التي طُرِحَت في أعمال هذه المرحلة طُرِحَت من أجل إيجاد الحلول لها و معالجتها و إصلاحها، كأن شأن الكتّاب شأن المصلحين نفسه.
والنقطة الأخيرة أن كتّاب هذه المرحلة لهم رسالة اجتماعية فنية؛ فمن الناحية الاجتماعية فإنهم أصبحوا كمصلحين يبدون مواقفهم من التقاليد و الصراعات الاجتماعية و...، و من الناحية الفنية لم تعد الأعمال القصصية و الروائية سبيلاً من سبل التفكه أو التسلية أو منبراً لإلقاء المواعظ و النصائح أو وسيلة لعرض المعلومات و المعارف و... بل أصبحت الغاية فنية، و أصبحت الكتابة في هذا الفن عملاً يعتز به صاحبه، و يتثقف من أجله و يبحث عن كل وسائل النجاح من أجل إخراج عمله عملاً فنياً رائعاً يجمع بين الرسالة الاجتماعية و الفنية.
جـ- مرحلة تأصيل القصة العربية
هذه المرحلة هي المرحلة الأخيرة في تطور القصة و الرواية العربية، والتي اعتبرت قمة المراحل و تسمّت بمرحلة التأصيل. و قد تداخلت هذه المرحلة بالمرحلة السابقة عقداً من الزمن حيث كانت الثلاثينيات خاتمة مرحلة التكوين و مدخلا إلي مرحلة التأصيل حيث اختارت الرواية والقصة العربية اتجاهاً جديداً نتيجةً لأسباب و عوامل مختلفة لم تكن ميسرة لهما في المرحلة السابقة.
وقد أتيحت الفرصة في هذه الفترة للكتّاب للاطلاع علي المناهج و طرق البحث العلمي و الكاديمي كما أتيحت الفرصة للاطلاع علي أنواع الدراسات النفيسة و التحليلة و الرمزية، و الأهم من هذه كلها أتيحت فرصة الإطلاع علي اللغات الأجنبية و الدراسات الواسعة في ميادين الأدب والقصص والفروع المختلفة للفكر الأروبي بلغاته الأصلية، و كان للجامعة المصرية فضل أساسي في تمهيد هذه كلها، إذ هيأت جيلاً حسب الأصول العلمية و المناهج الكاديمية الحديثة مهتمةً بأنواع العلوم كعلم النفس والفلسفة والاجتماع والتاريخ، وجَعلِها في متناول اليد؛ زد علي ذلك الدعوة إلي الحرية في التفكير والإشادة بالقيم الديمقراطية التي عني بطرحها الأساتذة الجامعيون علي هذا الجيل، كل هذه أخرج جيلاً جديداً من الكتّاب اتجه في كتاباته نحو الواقعية مستعيناً بقوي العقل و المنطق في مواجهة الأحداث والمشكل و التعبير عنها، و ابتعد عن تلك النزعة الرومانتيكية السابقة.
وقد أطلق علي هذا الجبل من الكتاب عنوان «جيل الجامعيين» و ذلك أنهم كانوا من خريجي الجامعة؛ منهم: علي أحمد بكثير خرّيج في قسم اللغة الإنكليزية؛ عبدالحميد جودة السحار خريج كلية التجارة والاقتصاد؛ يوسف السباعي خريج الكلية الحربية؛ إحسان عبدالقدوس خريج كلية الحقوق؛ يوسف إدريس خريج كلية الطب، و قمة روائي هذه المرحلة نجيب محفوظ خريج كلية الآداب، قسم الفلسفة؛ عبدالرحمن منيف الدكتوراه في العلوم الاقتصادية و... .
والنقطة الهامة في أعمال هؤلاء الروائيين أنهم تخلصوا إلي حد بعيد من العيوب التي كانت في أعمال المراحل السابقة من الناحية الفنية، كما حاولوا التخلص من عقدة الانبهار و الإعجاب بالثقافة الغربية، و من الخطف السريع لثمار الفكر الأروبي دون أن يكون علي وعي و منهجية، و رغم كل هذه التطورات الطارئة علي القصة و الرواية العربية من ناحية البناء الفني إلا أنها مازالت تحتاج إلي الكتمال في تشكيل بنائها الفني، إذ هي لم تخرج في معظمها عن قصص و رواياتِ شخصيات أو أحداث كما أنها لم تكتمل بعدُ من ناحية الأسلوب حيث ترواح أسلوبها بين التصوير، و هو طابع الأسلوب الروائي و بين التقرير، و هو طابع المقالة.
وبعد نجيب محفوظ الذي أسّس البناء الفني للقصة و الرواية العربيتين و بلغ بهما الذروة لحد بعيد، بدأت فترة نهضوية متميزة بفضل الأحداث الدامية التي حدثت في الخمسينات و الستينات، و من أهمها هزيمة 1967؛ ففي هذه المرحلة استطاعت القصة و الرواية أن تتطور و تتقدّّم كثيراً حيث ارتفعت منها تلك النقيصة التي أشرنا إليها من ناحية الأسلوب والتشكيل، إذ ظهرت تحريرات عديدة في مضامينها و أشكالها بالمقارنة مع الشكل الروائي السابق. فمن ناحية المضمون و المحتوي حاول الروائيون الجدد بعد نجيب محفوظ استيعاب كل التحولات التي وقعت في المجتمع العربي دون العناية بطابع المحلية و حصر أنفسهم فيها كالجيل الماضي، فظهرت أسماء كثيرة في عالم القصة و الرواية من الأقطار العربية المختلفة كجبرا ابراهيم جبرا، غسان كنفاني، حنّا مينة، عبدالرحمن منيف، جمال الغيطاني، الطيب صالح، غادة السّمان، حليم بركات و...، فأعمال هؤلاء وإن تفترق علي المستوي الجغرافي، لكنها تلتقي في قضايا و موضوعات مشتركة كالحرية و التحرر، السياسة، الانتماء الوطني و القومي، القضية الفلسطينية، الصراع الطبقي و... .
وأما علي المستوي الشكلي فظهرت تنويعات في أساليب السرد و تعدّد التقنيات في المزج بين الوصف و التذكر و المشاهد الحوارية و... ممّا جعلت القصة و الرواية العربيتين تنفصل كثر فكثر عن التقليد الأروبي، و جعلتها تعرفان التطور والتقدّم كمثيلتهما الأروبية.
3- الرواية العربية المعاصرة
عرف الأدب العربي الحديث أنواع قصصية متعددة، منها الأقصوصة، و قصة قصيرة، و قصة، و رواية، و سيرة ذاتية و...، والذي يهمنا هنا هي الرواية، و هي التي يعالج فيها المؤلف موضوعا كاملا أو كثر، زاخراً بحياة تامة واحدة أو كثر، فلا يفرغ القاريء منها إلا و قد ألمّ بحياة البطل أو الأبطال في مراحلهم المختلفة. و ميدان الرواية فسيح أمام القاص يستطيع فيه أن يكشف الستار عن حياة أبطاله و يجلو الحوادث مهما استغرقت من وقت.
ولقد كان نشوء الرواية في الأدب العربي موكبا لبداية عصر النهضة، و قد كثر الحديث عنها بين النقاد من المستشرقين و العرب حول بدايتها حيث وقفوا إزاءها مواقف متبانية، أهمها رأيان متباينان: أحدهما يري أن الجنس الروائي حاضر في التراث العربي، و الثاني ينفي أن تكون هنك أية صلة بين الرواية و تلك الأنماط القصصية القديمة.
وعلي الرغم من أن الكثير من الباحثين أنكروا الصلة بين نشأة الرواية العربية و بين التراث القصصي عند العرب، إلا أن هذا الارتباط حاضر، و قد ألقينا الضوء عليه خلال الرصد السابق للقصة بوصفها مشتملا علي الرواية أيضاً، إذ بدت الجهود الروائية الأولي متأثرة بالتراث العربي من ناحية المادة، و هذا ما ظهر بشكل جليّ في الرواية التاريخية التي اهتمّت بإحياء جوانب من التاريخ العربي والتركيز علي أحداثه البارزة، و في هذا الإطار تدخل أعمال الروائية التاريخية لجرجي زيدان، و علي الجارم (شاعر ملك، سيدة القصور...)، و محمد سعيد العريان (قطر الندي، بنت قسطنطين)، و محمد فريد أبو حديد (ابنة الملوك، المهلهل) و... ثم تلتها نتاجات أخري كتبت علي النمط القديم خاصة المقامة، نذكر منها مثلاً: «الساق علي الساق» لفارس شدياق، و «مجمع البحرين» لليازجي، و «حديث عيسي بن هشام» للمو يلحي، إلا أن هذه الأعمال تختلف عن الرواية الحديثة من ناحيتين؛ الأولي: من ناحية الأسلوب والبناء حيث تراوحت هذه الأعمال بين المقالة و المقامة، و اعتمدت علي السرد الحدثي دون تحليل الأحداث و الشخصيات ممّا جعلت الرواية في هذه الفترة غامضة الملامح و أفضت عليها طابع التقريرية؛ و الثانية: من ناحية الغاية و الهدف حيث الغاية من هذه الأعمال لم تكن فنياً بقدر ما كان تعليماً، و ذلك أن هؤلاء الرواد كانوا إما مصلحين، و إما علي صلة مع زعماء الإصلاح، و لذلك جاءت أعمالهم تعليمية مضمونية. و هكذا تستنج الصلة بين الرواية العربية الحديثة عند ظهورها، و بين الترات القصصي و الروائي عند العرب خاصة المقامة.
وقد اتخذ فريق آخر موقفا معارضاً للفريق الأول في نشوء الرواية العربية حيث يرجعه إلي تأثّر الأدب العربي بالأدب الغربي في عصر النهضة مستنداً في تعليل فقدانها إلي ضعف الخيال العربي و اختلاف لغة الأدب و لغة الكلام عند العرب، و انتشار الأمية إلي حد كبير في البلاد العربية، و قلة الأساطير، و سجال الحروب و اعتزال المرأة عن الحضور في الاجتماع و ...، كل هذه ما أفقد الأدب العربي القديم من جنس الرواية.
والذي يمكننا أن نقول بعد اطلاعنا علي هذين الرأيين المختلفين أن الرواية العربية الحديثة ظهرت متأثّرة بالأدب الغربي، فإنها و إن كانت في بدايتها تأثرت بالتراث العربي القديم من ناحية المادة و المضمون، لكنها سرعان ما انقطعت صلتها بذلك التراث، و تأثرت إلي حد بعيد بالرواية الغربية ممّا أدّت إلي تراجع المحاولات الأولي التي ظهرت متأثرة بالتراث القصصي والروائي العربي، فالكثير من الكتاب في هذه الفترة شغفوا بترجمة الروايات الغربية الرومانسية، و تركوا الاهتمام بتطوير ثراثهم الشعبي ممّا أدّي إلي رفض التراث القديم و قطع الصلة بينه و بين الرواية الفنية، كما أدّي إلي تغيير الغاية التعليمية من الرواية في الطور الأول إلي التسلية و الترفيه.
وعلي الرغم من اتصال هؤلاء الكتاب بالروايات الرومانسية الغربية عن طريق ترجمة تلك الآثار أولاً ثم التأليف و الإبداع علي منوالها، إلا أن سمات الرواية التقليدية تظهر بوضوح في أعمالهم من ناحية الأسلوب و السرد التقريري، و هكذا ظهر الاتجاه الرومانسي في الرواية العربية، و تجلّي ذلك في أعمال مصطفي لطفي المنفلوطي، و هيكل (زينب)، و جبران، و الريحاني، و كرم ملحم كرم (لا تنتحي، فريد، حرفة الألم و...) و محمود السيد، و علي الشبيبي (رنّة الكأس)، و خليل عزمي (دلال) و رضاء الدين الحيدري (الخطيئة).
وقد استمرت هذه النزعة فترة من الزمن إلي أن ظهرت إثرها أعمال أخري اهتمت بالترجمة الذاتية، و ذلك أن الرواد الأوائل اصطدموا بعقبات كثيرة في محاولتهم لخلق نوع روائي؛ و من أعلام هذا الاتجاه طه حسين (الأيام)، و المازني (ابراهيم الكاتب)، و توفيق الحكيم (عودة الروح) و ...، والغاية من هذه الروايات الذاتية إبراز الشخصية و الارتباط بالواقع.

التقاط-15

وعندما وصلت الرواية العربية إلي فترة الثلاثينات اتجهت نحو الواقعية متأثرة بالثقافة و الفكر الأروبي، و من نماذج هذا الاتجاه أعمال طه حسين، محمود تيمور، توفيق الحكيم، عبدالرحمن الشرقاوي (الأرض)، نجيب محفوظ (خان الخليلي، زقاق المدق، بين القصرين)، محمود أحمد سيد و... والغاية عند أصحاب هذا الاتجاه الوعظ الاجتماعي أو السياسي، و التعريض بالعادات، و النقد الاجتماعي و... .
ومن الاتجاهات الأخري للرواية العربية الحديثة الاتجاه النفسي، و هو حديث التكوين بعكس النزعة الباطنية البعيدة الغور، و قد تسمّي في الرواية العربية بتيار الوعي أو قصة الحوار الفردي الصامت أو القصة التحليلة. و قد ساعدت الرومانتيكية بنزعتها الذاتية في ظهور هذا النوع من الرواية، و هو يتميز بتركيز الاهتمام علي بطل أساسي بدلاً من توزيعه علي عدة أشخاص.
والشخصية التي يرتكز عليها الكاتب ليست إلا ستارا يشرح الكاتب من خلاله أفكاره الخاصة و عواطفه، حتي البطل في هذه الرواية صورة عن المؤلف. و من أعلام هذا الاتجاه عيسي عبيد (ثريا) و محمود تيمور، و طاهر لاشين (حواء بلا آدم)، و العقاد (سارة)، و المازني و... .
وأما الاتجاه الرمزي في الرواية العربية ظهر متأخراً عن الاتجاه الرومانتيكي، و هو ظهر في بعض نتاجات الكتّاب العرب من أمثال نجيب محفوظ (اللص و الكلاب، الشحاذ، أولاد حارتنا، السمان والخريف، الطريق)، و يحيي حقي، والنقطة الهامة أن الرمزية المحضة علي طريقة الغربيين نادرة في الروايات العربية.
والإتجاه الاجتماعي في الرواية العربية اقترن باتجاهات أخري، و كان كتّاب المهجر من أبرز الذين ساهموا في تكوين هذا الاتجاه، إذ صوّروا الكثير من المشكل الاجتماعية والتقاليد الشعبية، و من أبرز أصحاب هذا الاتجاه ميخائيل نعيمة، و كرم ملحم كرم.
هذه كانت أهم المحاور التي تناولتها الرواية العربية قبل السبعينات، و قد وردت الرواية العربية في فترة السبعينات و ما بعدها إلي مرحلة جديدة تنوعت إلي حد كبير من ناحية الأساليب و السرد و التخلص من الأسس التقليدية للسرد، كالعرض، والعقدة، والحل، كما تقدمت كثيراً في التخييل والتصوير؛ و من ناحية المضمون أيضاً حاولت استيعاب جميع التحولات التي حدثت في المجتمع العربي مع الخروج عن طابع المحلية، و تناوُلَها بالتصوير والتمثيل أينما كانت و وقعت، لذلك اهتمت بالهمّ القومي، و الصراع الطبقي، و القضايا السياسية، قضية فلسطين، الحرية والتحرر و... و من أعلام الرواية العربية في السبعينات و ما بعدها جبرا ابراهيم جبرا، غسان كنفاني، حنا مينة، غادة السمان، عبدالرحمن منيف، الطيب صالح، سحر خليفة، سهيل إدريس و... .
اتجاهات الرواية العربية في السبعينات
لحد الآن ما ذكرنا حول نشأة الرواية و الاتجاهات التي ظهرت فيها كانت كلها مطبوعة بطابع الرواية التقليدية، لكن في أواخر الستينات و بداية السبعينات ظهرت ثوراث عنيفة علي الرواية التقليدية المستهلكة، أدت إلي ظهور اتجاهات جديدة، و إن كانت هي متأثّرة بالغرب لحد بعيد، إلا أن التأصيل والتكوين ظهرا فيها في أسرع وقت ممكن، و هذه الاتجاهات الجديدة هي:
أ: رواية تيار الوعي
كان هذا الاتجاه بمثابة ثورة عارمة علي الرواية التقليدية، و قد بدأ في الأدب الغربي في نهاية القرن التاسع عشر وامتدت إلي النصف الأول علي يد «ما رسل بروست (البحث عن الزمن الضائع)»، و « جيمس جويس (أوليس)». و بهذا التيار ظهرت بلبلة في عالم الرواية، إذ قبل ذلك كان الطابع الأساسي للرواية هو تسلسل الأحداث، و تفاعل البطل مع هذه الأحداث، لكن بظهور هذا التيار تغير الأسلوب، و أصبح كتشاف العقل والباطن الخفي مثار الاهتمام، لأنه المحرك الأساسي للفكر و السلوك.
و مقومات هذا الاتجاه أو التيار تتلخص فيما يلي:
الف) المونولوج الداخلي المباشر، و فيه يغيب المؤلف، و يتم الحديث فيه بضمير المفرد و الغائب.
ب) المونولوج الداخلي غير المباشر، و فيه يحضر المؤلف عبر الوصف و التعليق، و يقوم الحكي فيه بضمير المتكلم.
ج) وصف الوعي الذهي للشخصيات.
د) مناجاة النفس.
هـ) التداعي الحر من طريق الخيال و الحواس.
و) المونتاج السينمائي عن طريق تعدد الصور و تواليها.
وفي الأدب العربي تأثّر روائيون كثيرون في فترة الستينات والسبعينات بهذا التيار الذي أدي إلي تفاهم التعبيرات الرمزية في أعمالهم؛ منهم نجيب محفوظ (الشحاذ)، حيدر حيدر (الزمن الموحش)، هاني الراهب (ألف ليلة و ليلتان)، و غادة السمان و... .
والذي ساعد علي انتشار هذه المدرسة الروائية هي الروايات المترجمة المكتوبة بهذا الأسلوب ثم ترجمة مفاهيم علم النفس، و ترجمة آراء فرويد و ... حيث أثّرت في انتشار ذلك.
ب: الرواية الطليعية
والاتجاه الثاني في الرواية العربية بعد السبعينات هو الاتجاه الطبيعي أو الرواية الطليعية، و هي تعني استخدم تقنيات فنية جديدة تتجاوز الأساليب و الجماليات السائدة و المعروفة، لكن بهدوء و بطء و تمهّل.
وقد تميزت الرواية الطليعية باستخدام تقنيات السينما، و التقطيع إلي صور و لوحات مستقلة تعطي مجتمعة انطباعاً و إحساسا واحداً، كما تميزت باستخدام المونولوج الداخلي، و الفلاش بك في تصوير ماضي الأبطال، كما أن من ميزاته الأخري أسلوبها الشعري، و النسبية أو النظر إلي الحادثة الواحدة من زوايا مختلفة و عديدة.
ومن الروائين العرب الذين تجلّت هذه العناصر في نتاجهم، جمال الغيطاني، صنع الله ابراهيم، اميل حبيبي، جبرا ابراهيم جبرا، الطاهر وطّار، عبدالرحمن منيف، الياس خوري و... .
جـ: الرواية التجريبية
هذا الاتجاه أحدثُ اتجاه ظهر في العالم الروائي، والذي اعتمد عليه المعاصرون بوصفه تقنية جديدة من أجل تجاوز واقعهم الفني المستهلك، فقامت الرواية التجريبية علي توظيف البناءات والأحلام اللغوية، و استقلال تقنيات الشعور و اللاشعور، و انثيال الوعي و اللاوعي والأحلام، و إلغاء عنصري الزمان والمكان و... .
وقد ظهر هذا الاتجاه بغية بناء أدب مضادّ للابداع المتعارف عليه مسبقا عن طريق تدمير البنيات الشكلية للرواية، والعناصر الفنية، و تفجير اللغة، والخروج علي الأنماط الروائية السائدة نحو الإبداع و الإبتكار، و الولوع إلي عالم مستقبلي مجهول منقطعاً عن الماضي و الحاضر، متفائلا إلي المستقبل. ومن أشهر الروائيين الجدد، أحمد المديني حيث يري أن الرواية هي فيض لغوي و ثراء لفظي يتجاوز العادي و المألوف خارجاً عن البناء الروائي السابق. و من أشهر رواياته (زمن بين الولادة و الحلم).
المصادر
1- الاتجاه القومي في الرواية، مصطفي عبدالغني، عالم المعرفة، الكويت، 1994م.
2- الأدب القصصي و المسرحي، احمد هيكل، الطبعة الرابعة، دار المعارف، 1983م.
3- تطور الأدب الحديث في مصر، احمد هيكل، الطبعة السادسة، دار المعارف، مصر، 1994م.
4- تطور الرواية العربية الحديثة، عبدالمحسن طه البدر، الطبعة الثالثة، دار المعارف، 1976م.
5- تطور الرواية العربية الحديثة في بلاد الشام، ابراهيم السعافين، دار المناهل، بيروت، 1987م.
6- تطور فن القصة اللبنانية، علي نجيب العطوي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1982م.
7- تكوين الرواية العربية (اللغة و رؤية العالم)، محمد كامل الخطيب، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1990م.
8- الرواية العربية: النشأة و التحول، محسن جاسم الموسوي، دار الآداب، بيروت، دون تاريخ.
9- الرواية العربية المعاصرة: بدايات و ملامح، محمد عزام، مجلة المعرفة، العدد 388، 1996م.
10- في الجهود الروائية (من سليم البستاني إلي نجيب محفوظ)، عبدالرحمن ياغي، دار الفارابي، بيروت، 1999م.
………………………
الرواية في الأدب العربي
تعود نشأة الرواية العربية إلى التأثر المباشر بالرواية الغربية بعد منتصف القرن التاسع عشر الميلادي.ولا يعني هذاالتأثر أن التراث العربي لم يعرف شكلاً روائيًا خاصًا به.فقد كان التراث حافلاً بإرهاصات قصصية، تمثلت في حكايات السمار والسير الشعبية وقصص العذريين وأضرابهم ، والقَصَص الديني والفلسفي.أما المقامات العربية فذات مقام خاص في بدايات فن القص والرواية في الأدب العربي. فقد تركت بصمات واضحة في مؤلف المويلحي حديث عيسى بن هشام وفي مؤلفات غيره من المحدثين الذين اتخذوا من أسلوب المقامة شكلاً فنيًا لهم. وتعزى أول محاولة لنقل الرواية الغربية إلى عالم الرواية العربية إلى رفاعة رافع الطهطاويّ في ترجمته لرواية فينيلون" مغامرات تليماك (1867م ( ولعلّ رواية سليم البستاني الهيام في جنان الشام (1870م) أول رواية عربية قلبًا وقالبًا.وتظل الرواية العربية قبل الحرب العالمية الأولى على حالة من التشويش والبعد عن القواعد الفنية وأقرب ماتكون إلى التعريب والاقتباس حتى ظهور رواية زينب (1914م) لمحمد حسين هيكل، التي يكاد يتفق النقاد على أنها بداية الرواية العربية الفنيّة، حيث اقترب المؤلف فيها من البنية الفنية للرواية الغربية التي كانت في أوج ازدهارها آنذاك. وقد عالجت رواية زينب واقع الريف المصري وهو أمر لم تألفه الكتابة الروائية قبل ذلك.وعقب الحرب العالمية الأولى ومع بداية الثلاثينيات من القرن العشرين بدأت الرواية العربية تتخذ سمتًا أكثر فنية وأعمق أصالة. وكان ذلك على يد مجموعة من الكتاب ممن تأثروا بالثقافة الغربية أمثال طه حسين وتوفيق الحكيم وعيسى عبيد والمازني ومحمود تيمور وغيرهم. فقد نقلت روايات الأربعينيات والخمسينيات الإبداع الروائي في الأدب العربي نقلة جديدة، ومن أبرز كتاب هذه الفترة عبد الحميد جودة السحار ويوسف السباعي وإحسان عبد القدوس إلا أن الروائي المصري نجيب محفوظ يُعَدّ سيِّد هذا الميدان غير مدافع. فرواياته خان الخليلي و زقاق المدق، و الثلاثية تمثل رؤية جديدة أضافت إلى أجواء الرواية عوالم أرحب وأوسع. وفي الستينيات من القرن العشرين بدأ نجيب محفوظ يبدع عالَـمًا روائيًا جديدًا مستخدمًا تقنيات أكثر إبداعًا وأكثر تعقيدًا، وتقف رواياته اللص والكلاب؛ السمان والخريف؛ الطريق؛ الشحاذ؛ ثرثرة فوق النيل معلمًا بارزًا في مسيرة الرواية الجديدة، ذلك أن المضامين الاجتماعية التي عني بها من قبل امتزجت بها في هذه
المرحلة مضامين فكرية وإنسانية ونفسية احتاجت إلى شكل روائيً أكثر فنية من مرحلته السابقة. وقد أجبرت هزيمة عام 1967م الروائي العربي إلى إعادة النظر في تيار الرواية، الذي كان سائدًا قبل الهزيمة، فظهرت من ثَمَّ أنماطٌ روائية جديدة، فيها ثورة على الأساليب التقليدية، كالحبكة والبطل والسرد التاريخي. وكانت لنجيب محفوظ إضافة لاتنكر في هذه المرحلة. ظهر بعد ذلك جيل آخر من الروائيين العرب، سُمِّي بالحداثيين، خرجوا على رؤية الرواية التقليدية وتقنياتها. وعلى أيدي هؤلاء الكتاب مثل: صنع الله إبراهيم وحنا مينا وجمال الغيطاني وإدوار الخراط والطيب صالح وبهاء طاهر وإميل حبيبي والطاهر وطّار وعبدالرحمن منيف وغيرهم ظهرت رؤية روائية تحمل اتجاهات معاصرة وحداثية مختلفة، من أهم سماتها أن الخطاب الروائي تجاوز المفاهيم التقليدية حول الرواية في عصورها الكلاسيكية والرومانسية والواقعية الجديدة؛
وتداخلت أساليبها مع تداخلات العالم الخيالي والصوفي والواقعي والتاريخي، مما
جعلها، سواء في حبكتها أو شخوصها، أكثر تعقيدًا وأعمق تركيبًا. ووصلت الرواية بذلك إلى دُنيا النص المفتوح الذي يفضي إلى قراءات متعددة لا تصل إلى تفسير نهائي للخطاب الروائي كما كان الحال في الروايات السابقة
15 juillet 2021

الأدب الإفريقي

الأدب الإفريقي

 

133-195207-globalization-modern-african-literature-2

 

يشتمل  الأدب الإفريقي على التراث الشفهي والآداب المكتوبة بلغات بعض الشعوب الإفريقية كالسواحلية والحوصة والبانتو والنيلو وغيرها من الشعوب التي تعيش في بعض أجزاء القارة السوداء، ولاسيما إلىالجنوب  من الصحراء الكبرى. ومع أنه لا يمكن الادعاء بوجود وحدة ثقافية أصيلة بين الشعوب الكثيرة التي تعيش في هذه القارة، إلا أنه لا يمكن أيضاً إنكار الملامح الحضارية المشتركة التي تعم شعوبها، وقد بدأت هذه الملامح تظهر بعد الحرب العالمية الثانية خاصة، إذ أخذت تبرز حالة من الوعي السياسي الذي يدل على الانتماء الحضاري للأفارقة، وذلك من خلال بعض الحركات أو التنظيمات الإفريقية مثل حركة عموم إفريقية. ولعل من الضروري التنبيه على أهمية معالجة المظاهر الحضارية في القارة الإفريقية بعيداً عن الحضارة العربية في شمالي القارة حيث تسود الثقافة العربية الإسلامية، وهي حضارة ذات ملامح خاصة ومنفصلة عن الحضارة الإفريقية في مناطق

أخرى

الآداب الشفوية

كانت المشافهة وسيلة الاتصال الرئيسة في الحضارة الإفريقية القديمة، وكانت الأخبار والأساطير والأشعار تنتقل من قبيلة إلى أخرى، ومن جيل إلى جيل عن طريق الرواية الشفوية، وكان الراوية شخصاً متميزاً بمكانة مرموقة في قبيلته، لامتلاكه قدرة بلاغية خاصة، وتمتعه بقوة الذاكرة، وتبادل الأمثال والأشعار والحكايات بين روادها.

ويمكن القول إن مجمل ماوصل إلينا من هذه الآداب الشفوية يدور حول الخرافات والأساطير التي تشوبها المبالغة، ويختلط فيها الواقع بالخيال المجنح، إضافة إلى بعض الأشعار المروية بلغة البوهل وفوتا ـ جالون ومالينكه Malinke والسوندياتية وأشعار مملكة رواندا المقدسة وأشعار اليوروبا والتراكاراس، كما أسهمت الفنون الاحتفالية (المسرحية) بدور مميز في هذه الآداب، وتضمنت نقداً اجتماعياً. وقد تراجعت هذه الآداب مع بداية التوسع المدني، ومارافقه من تحولات أدت إلى ظهور الآداب المكتوبة.

انتشر التراث الشفوي الإفريقي في العالم الجديد مع تجارة العبيد، ويشمل هذا التراث أنماطاً شعرية وقصصية غنية ومتنوعة لمعظم القبائل الإفريقية. وتعد الأساطير وقصص الخلق من أغناها وأكثرها تنوعاً وخيالاً، فشعب الكونغو مثلاً يعتقد بأن القوة الحقيقية في العالم هي الموت الموجود قبل الإله، أما شعب زامبية فيعتقد أن الإله يتراجع يائساً أمام قوة الإنسان ويؤمن شعب إيبو Ibo في دلتا النيجر أن الآلهة الخالقة تسمح للإنسان باختيار مصيره قبل أن يولد، ولدى شعب بانغو في تنزانية رؤية خيالية خاصة عن الخلق، إذ يعتقدون أن العالم مخلوق خرج من بطون النمل، ويذهب الرعاة من شعب مالي إلى أن أصل الخليقة هو نقطة الحليب المقدسة. وأكثر قصص الخلق عند شعوب إفريقية تلك التي تتحدث عن خلق العالم في سبعة أيام، كما يعتقد شعب دوغون الذي يعيش في المنطقة التي تعرف اليوم باسم جمهورية مالي. وتتفق معظم الأساطير الإفريقية على أن الإله قد وافق في البداية على منح الإنسان حياة أبدية، إلا أن رسالته قد حرفت بسبب التدليس والغباء، وثمة مئات من الأساطير حول هذه الرسالة المحرفة في إفريقية. أما الشعر الإفريقي فتطغى عليه عبارات التمجيد والتبريك التي تشمل الآلهة والإنسان والحيوان والنبات والبقاع أيضاً، وأهم أناشيد التمجيد في إفريقية تلك التي تتناول زعماء القبائل وقادة الحروب. كأناشيد المديح التي تمجد زعيم الزولو العظيم شاكا Shaka.

وتميز قبائل اليوروبا أسماء التبريك (أوريكي) Oriki من أشعار الحكمة وأغاني الصيادين والرقى والتعاويذ، وربما كان شعر إيجو أكثر الأشعار الإفريقية إغراقاً في الصنعة، ولذلك فلا يستطيع نظمه سوى بعض الكهنة، وقد يتطلب إلقاء قصيدة ليلة بكاملها، ويترافق إلقاؤها مع قصص تاريخية وأسطورية يستعين بها الكاهن أو العراف على الحكم في قضية ما (أشعار أودو). وعلى العموم فكل جانب من جوانب الحياة في إفريقية يترافق مع الأناشيد والشعر: الرعي والحرب والكوارث والأفراح وغيرها.

وتنتشر القصص الشعبية في إفريقية إلى جانب الشعر والأساطير، وأشهرها وأكثرها انتشاراً قصص الحيوانات الماكرة، ومثالها عند شعوب البانتو في شرقي إفريقية وأوسطها وغربيها وفي غربي السودان هو الأرنب البري، وفي غربي إفريقية العنكبوت. وتتميز هذه الحيوانات عندهم عادة بالحيلة والدهاء تهزم بهما أعداء أكبر منها وأقوى على الرغم من كثرة أخطائها التي تمتع المستمعين وتضحكهم، فحين سرقت السلحفاة سلة الحكمة من الآلهة وحاولت الهرب بها، اعترضتها شجرة لم تستطع تخطيها، لأنها على غفلة من أمرها علقت السلة في عنقها بدلاً من أن تحملها على ظهرها، وحين عجزت عن انتزاعها من رقبتها تناثرت الحكمة في العالم منذ ذلك الحين. أما العنكبوت فيبدو في هذه القصص شخصية أسطورية، وخصماً عنيداً لإله السماء، يسرق قصصه ويخدعه، وهو بذلك يشبه إيشو إله يوروبا المخادع الذي يعترض الآلهة الآخرين ويعرقل أعمالهم ويعطل نواياهم. ويتفرع من قصص المكر هذه قصص الهروب التي يبحث فيها البطل عن مخرج من مهمة مستحيلة وضعته الظروف فيها.

ويعتمد فن الحديث عند الأفارقة على الأمثال اعتماداً واسعاً، فيقول شعب إيبو «إن الأمثال إدام الكلام، فهي زيت النخيل الذي تؤكل به الكلمات»، ولا يخلو جدل أو حديث عندهم من مثل يدل على علم المتحدث وخبرته، وغالباً مايكتفى بقول نصف المثل، ويترك النصف الآخر للسامع يكمله، وتعبر هذه الأمثال عن حكمة هذه الشعوب وتجاربها وأخلاقها وسعة خيالها، وقد استطاع أحد أفراد بعثة سويسرية تبشيرية وهو ج. كريستالر جمع أكثر من 3600 مثل بلغة التوي في غانة ونشرها في بال (بازل) سنة 1879م. وللألغاز في إفريقية حضور دائم في الأسمار خاصة، وهي تأخذ عادة صيغة العرض والإفادة لا صيغة السؤال كقولهم «يهرب الناس منها عندما تكون حاملاً، ويعودون إليها بعد أن تضع» والجواب هو: المدفع، وغالباً ما يصاغ اللغز بأسلوب مجازي يفصح عن قوة مخيلة صاحبه.

وقد أخذ معظم هذه الفنون الشعبية الموروثة يخبو منذ منتصف القرن العشرين، ولاسيما ما يتعلق منها بالطقوس الدينية، وأخذت صيغ التبريك والمديح في الشعر تتحول إلى رجال السياسة، وقد تأخذ صورة الرقى والتعاويذ في هجاء الخصوم، بيد أن النزعة القومية لدى الأفارقة ونزوعهم إلى التحرر من الاستعمار الغربي أديا إلى ازدياد اهتمامهم بتراثهم الحضاري، فلم يعد العمل على جمعه ودراسته محصوراً في دوائر التبشير وعلماء الأجناس واللغات الأجانب، وأضحت المجموعات التي دونها كتّاب أفارقة منذ ثلاثينات القرن العشرين أفضل مجموعات التراث الشعبي الإفريقي. وظهرت آثار هذا التراث في أعمال معظم الكتاب الأفارقة مثل آموس توتولا من شعب اليوروبا الذي كان في مطلع حياته حكواتياً.

 

الأدب الإفريقي المكتوب باللغات الإفريقية

121-120327-feminism-novels-african-women_700x400

يمكن حصر اللغات المحلية الإفريقية، على كثرتها، في عشر مجموعات أساسية تضم كل مجموعة منها عدداً كبيراً من اللغات أو اللهجات، وتعدّ المجموعة الكونغولية الكردفانية (نسبة إلى كردفان بالسودان) في مقدمة هذه المجموعات. وتنتشر مابين نهر السنغال وكينية، والمجموعة الماندية The Mande Group في مالي وأعالي خليج غينية. ومجموعة البمبرا (البمبارا): في النيجر، والسواحلية: في كينية وتنزانية وأوغندة وأجزاء من الكونغو، والحوصة في غربي إفريقية، والجعزية والأمهرية Amharic والتيغرية والتغرانية: في إثيوبية، والأمازيغية (البربرية) في المغرب العربي، إضافة إلى العربية التي تعد أوسع اللغات انتشاراً في إفريقية.

ومعظم اللغات الإفريقية غير مكتوبة، ولم يحاول المستعمر الأوربي تطويرها أو توحيدها، بل شجع استعمال اللهجات المحلية ليزيد القبائل فرقة، وحارب اللغة العربية خاصة، وسعى إلى فرض لغته وثقافته في المناطق المستعمرة، فسادت فيها الإنكليزية أو الفرنسية أو الإسبانية أو البرتغالية بحسب لغة المستعمر، فزاد ذلك في اضمحلال اللغات المحلية واندثارها. على أن الدعوة إلى إحياء تلك اللغات واستعمالها قد ازدادت قوة بعد الاستقلال فعادت إلى الحياة بعض اللغات القديمة، وظهرت لغات جديدة كالأفريكانية التي انتشرت في جنوبي إفريقية بين السكان المحليين، وهي خليط من بعض لغات البانتو والزولو Zulu والإنكليزية والهولندية، بيد أن معظم هذه اللغات يكتب بحروف لاتينية.

اللغات الإثيوبية

تعد الجعزية أقدم لغة إفريقية مكتوبة، وتعود أصولها إلى العربية الحميرية والظفارية في اليمن، وتكتب من اليسار إلى اليمين بحروف خاصة، وهي لغة الكنيسة الإثيوبية، وتزاحمها الأمهرية القريبة منها، وهي اللغة الرسمية في إثيوبية، والتيگرية والتيگرانية المتفرعتان منها. وتعزى أقدم المأثورات المدونة باللغة الجعزية إلى القرن الثالث الميلادي، وترجم الكتاب المقدس إليها في القرن الخامس. أما الأمهرية فثمة قصائد مروية بها وأغان تعود إلى القرن الرابع عشر، بيد أن أقدم النصوص المدونة بها تعود إلى القرن التاسع عشر.

السواحلية

وتعد من لغات البانتو، وهي لغة أهل السواحل والجزر الشرقية بين كينية وتنزانية في الجنوب، وللعربية أثر ظاهر فيها. إذ تكتب بحروفها، وتضم مفردات كثيرة منها، وتعود أقدم المدونات بها إلى أواخر القرن السابع عشر، وتشتمل هذه المدونات على بعض النصوص الدينية الإسلامية أو القصائد القصصية المستوحاة من التراث العربي أو الفارسي. ويحتل الشعر المحل الأول في التراث السواحلي، ومعظمه من الشعر الملحمي الذي يتألف من رباعيات، يضم كل سطر منها ثمانية مقاطع، وأشهر الملاحم السواحلية: «المحمديّة» (6280 رباعية) وهي أطول ملحمة مكتوبة بلغة إفريقية، وتحكي سيرة النبي محمد Mohamed peace be upon him.svg، وملحمة رأس الغول (4384 رباعية) وتتحدث عن حملة بعث بها الخليفة علي بن أبي طالب إلى اليمن، وملحمة التمبوكان أو الهريكالي (1145 رباعية) وهي أقدم ملحمة سواحلية مدونة، ويعود تاريخ تدوينها إلى سنة (1141هـ/ 1728م) وتروي قصة حملة ترى أن النبي محمد Mohamed peace be upon him.svg قام بها على هرقل امبراطور بيزنطة سنة 630م، والملحمة الحسينية (1209 رباعية) في سيرة الحسين بن علي ومقتله، وغيرها من الملاحم الكثيرة الأخرى في موضوعات شتى معظمها ديني إسلامي وتاريخي، أحصي منها أكثر من سبعين ملحمة حتى عام 1972، وظهرت في مطلع القرن العشرين ملحمة وطنية تصف حروب سكان السواحل مع ألمانية، وهنالك مجموعة من القصص تدور حول البطل القومي ليونغو وتضم تراثاً غنياً بالأناشيد والأشعار التي لها أهميتها في الثقافة السواحلية، وما يتصل بها من دراسات.

أما الشعر العلماني أو غير الديني فتعود بواكيره المكتوبة إلى أوائل القرن التاسع عشر، ويعد الشاعر مُياكا بن حجي الغساني (1776- 1890) من أوائل الشعراء السواحليين وأشهرهم، وقد طبع ديوانه سنة 1940م، ومن الشعراء البارزين في القرن العشرين الشيخ عمري عبيد وماتياس متيامبالا. أما الكتابات النثرية بالسواحلية فتستمد موضوعاتها من التراث والأساطير، وتكتب بأسلوب شرقي شائق سار عليه بعض الكتاب المعاصرين كدفيد ريغا وعمر شريف، ويعد جيمس فيوتيلا أول من كتب القصة الفنية الحديثة بالسواحلية حين ألف روايته التاريخية «الحرية للعبيد» (1934). ومن كتاب القصة السواحلية محمد صالح عبد الله الزنجباري مؤلف المجموعة القصصية «كوروا ودوتو» (1960)، ومحمد سعيد عبد الله من زنجبار مؤلف أول الروايات البوليسية بالسواحلية ومن أعماله: «مزيمو وواتووكاله» (1960).

والسواحلية هي اللغة الوحيدة من لغات البانتو التي دوّن بها تاريخ الأفارقة الناطقين بها قبل الاستعمار الغربي للقارة، وثمة حوليات مطبوعة عن مدن لامو وممباسة وبات، وفقدت الحولية السواحلية عن مدينة كلوة كما أن هنالك بعض المدونات التاريخية المطبوعة عن مدينة واكيلندي (1962). أما أعظم كتّاب السواحلية في القرن العشرين فهو شعبان روبرت Shaaban Robert من تانگانيقا الذي جمع بين عناصر الثقافة الإسلامية والغربية.

البانتو

اليوروبا

تعيش القبائل اليوروبية في نيجيرية، ويحيا بعضها في بنين، وتراثها غني بالأساطير والقصص الشعبية والأغاني، أما أدبها المكتوب فبدأ بالظهور منذ عام 1844م بترجمة مقاطع من الكتاب المقدس، فكتب بعض اليوروبيين عدداً من القصص، وكان الزعيم اليوروبي الشعبي فاگونوا من رواد القصة بهذه اللغة، فأصدر بها «غابة الإله» سنة 1947، وتولد من هذه المجموعة منذ 1970 آلاف القصص التي تحكي مغامرات أسطورية شعبية عن السحر والتقمص والوحوش، وقد تأثر بها توتولا في رواياته التي يكتبها بالإنكليزية، على أن كتّاباً آخرين فضّلوا الخروج على هذا التقليد، فكتب دلانو أول سلسلة من القصص الواقعية بعنوان: «إنه عالم الرجل الأبيض» (1955). أما المسرح فكان للأدب اليوروبي فيه مجال واسع، فأسس الكاتب هوبرت أوغوند في الأربعينات أول فرقة مسرحية قدمت مسرحيات هزلية ناقدة أشهرها «العقلية الأوربية» (1964)، ثم قام أگوگولا بحملة إصلاح مسرحي واسعة شملت النصوص والإخراج والموسيقى المرافقة، وتعد مسرحيات «حب المال» (1950) و«شاربو خمر التمر» المقتبسة من قصة لتوتولا من أشهر أعماله، أما المسرحيات الأدبية فأشهرها «ثلاث مسرحيات يوروبية» لاورو لاديبو (1964) أفاد فيها من التراث اليوروبي في الشعر والرواية، وتحكي تاريخ مملكة يوروبا، وربما كانت اليوروبية اللغة الإفريقية الوحيدة، باستثناء اللغة العربية، التي تصدر بها مجلة أدبية هي «أولوكوم» التي صدرت عام 1971 عن جامعة إبادان، وتصدر مرتين في السنة.

الآداب الإفريقية المكتوبة باللغات الأجنبية

الأدب المكتوب بالفرنسية

انتشرت الفرنسية بين المثقفين الأفارقة الذين نشؤوا في المناطق الخاضعة للنفوذ الفرنسي، أو الذين تلقوا تعليمهم في فرنسة، ونجم منهم بعض الكتاب الذين حازوا شهرة كبيرة، وكانت الكتابات التي نشرها بعض مستكشفي القارة ومستعمريها والمبشرين مقدمة لمجموعة من المؤلفات التي تصف القارة وسكانها، وفي طليعتها: «رحلة تومبكتو ودُجينة» (1830) لرونيه كاييه René Caillé، ثم بدأت تظهر بعض كتابات الأفارقة أنفسهم من أمثال عثمان سوسيه من السنغال، وبول هازومي Paul Hazoumé من داهومي، ورونيه ماران من غينية الذي كان في طليعة الكتاب الأفارقة الذين جابهوا الاستعمار وكشفوا عن مخاطره وأعماله، وعدّ مؤلَّفه «باتولا» الفائز بجائزة گونكور الأدبية (1921) بداية حقيقية للأدب الإفريقي المكتوب بالفرنسية.

أسهمت الدراسات الخاصة بعلم السلالات وتكون الأمم (الإثنولوجية) في ازدياد تمسك الأفارقة بماضيهم، واعتزازهم بأنفسهم، وتقديرهم لتراثهم وتقاليدهم في داخل القارة وخارجها فنشر د. جان برس مارس كتاب «هكذا تكلم العم» في هاييتي (1928) وكان لعمله هذا أثر كبير في تعميق تلك المشاعر لدى الزنوج وازداد هذا الأثر عمقاً مع نشر بيان المثقفين الأفارقة «الدفاع الشرعي عن النفس» (1932) وصدور صحيفة «الطالب الزنجي» في باريس (1934) التي تولى تحريرها ليوبولد سيدار سنگور Senghor من السنغال وليون گونتران داماس من گويانا وإيميه سيزير Césaire من المارتنيك، فنشطت حركة الأدباء الأفارقة وازدهر نتاجها، فأصدر داماس «الأصباغ» (1937)، وكتب سيزير «دفتر العودة إلى الوطن» (1939)، ونشر سنگور «أغاني الظلام» (1945). وكانت محاولات التخلص من سيطرة المستعمر الأبيض في مقدمة العوامل المنشطة للنتاج الأدبي الغزير في هذه المدة، وقد أصدر هؤلاء الثلاثة مجلة «الوجود الإفريقي» (1947) التي تعد أول مجلة أدبية إفريقية تصدر بالفرنسية، وكان لها أثر ظاهر في إذكاء فكرة الزنوجة التي نادى بها كثير من الأدباء الأفارقة.

ضم الجيل الثاني من الأدباء مجموعة من الكتاب الذين بدأت مؤلفاتهم تظهر في الخمسينات مثل مونگو بيتي Mongo Beti وفرديناند اويونو Ferdinand Oyono وسمبين عثمان Sembene Ousmane وجبريل تامسير وجان مالونفة ونازي بوني الذين دعوا إلى تأكيد الهوية الأدبية الإفريقية من دون تعصب للزنوجة، ويعد الشاعر الكونغولي تشيكايا أوتامسي Tchicaya Utamsi أهم ممثلي هذا الاتجاه، كما يعد مونغو بيتي أبرزهم في ميدان القصة، ويتجلى ذلك في روايته «مسيح بومبا الفقير» (1956) وكذلك فرديناند أيونو في قصصه «حياة صبي» (1956) و«صبي البيت» (1966) و«الوسام» (1967) التي ترمي إلى تسفيه فكرة فَرْنَسَة إفريقية الغربية.

أما الأدباء الأفارقة الشباب الذين ظهرت أعمالهم في مرحلة مابعد الاستقلال فقد أثاروا المشكلات الناجمة من التفاوت الكبير بين البيئتين الغربية والإفريقية، كما هو الشأن في رواية «المغامرة الغامضة» للشيخ حميدو كانه (Hamidou Kane (1961 ويتجه بعض الكتاب إلى تصوير الأوضاع المضطربة في بلادهم بعد استقلالها مثل أحمد كروما في روايته «شموس الاستقلال» وكمارا لاي Camara Laye في روايته «دراموس» (1966) التي يهاجم فيها تسلط الحزب الحاكم في غينية.

أما المسرح فقد كانت بداياته متواضعة تجلت في مسرحيات صغيرة تروى حكايات شعبية، وتجسد التقاليد الإفريقية الأصيلة، وتوجه ـ في كثير من الأحيان ـ نقداً لاذعاً لأنظمة الحكم الوطنية مثل مسرحية «مأساة الملك كريستوف» لسيزير (1964) و«الرئيس» لمكسيم دبيكا (1970) و«السكرتير الخاص» لجان بليا (1973).

الآداب المكتوبة بالإنكليزية

الأدب-الأفريقي

تعدّ الكتابات التي نشرت في إنكلترة، والتي كتبها أفارقة بيعوا هناك أو ولدوا عبيداً ثم اعتقوا، من أوائل ما كتبه الأفارقة بالإنكليزية ومن ذلك رواية «الإفريقي» (1789) التي تحكي حياة ألودا أكيانو أو گوستاف فاشا ومغامراته، وهي أول سجل كتبه إفريقي عن وطنه الأصلي. وفي القرن التاسع عشر، ومع انتشار المدارس التبشيرية، نشر بعض الأفارقة أعمالهم بالإنكليزية في موطنهم الأصلي ومنهم صموئيل أدجاي كروثر وأفريكانو هورتون وإدوارد بليدن.

وفي مطلع القرن العشرين كتب وزير العقائد الغاني الثائر كارل كريستيان رايندروف Carl Christian Reindorf «تاريخ ساحل الذهب وأشانتي» (1911) وأفاد فيها من التراث الإفريقي الشفوي. كما كتب في السنة نفسها جوزيف كاسلي هايفورد Joseph E.Casely- Hayford «إثيوبية غير المقيدة»، وهي مزيج من القصة والسيرة الذاتية، وبشر فيها بظهور حركة الزنوجة.

وكان من نتائج الحركة الأدبية التي نشطت في باريس منذ الثلاثينات أن صدرت في نيجيرية مجلة «بلاك أورفيوس» Black Orpheus التي عنيت بنشر أعمال الكتاب الأفارقة المكتوبة بالفرنسية مترجمة إلى الإنكليزية، وفي مطلع الستينات برزت في نيجيرية حركة معارضة لأسلوب سنگور المغالي في المثالية، وأصبحت الأحوال مواتية للتخلي عن نهج الكتاب الأفارقة الذين يكتبون بالفرنسية، وكان ووله سوينكا Wole Soyinka في طليعة الدعاة إلى هذا الاتجاه، فازداد نتاج الأدباء الأفارقة بالإنكليزية، ونشرت عدة روايات ودواوين شعرية تتناول المشكلات الناجمة من اضطراب الأوضاع السياسية بعد الاستقلال، وتنتقد الأوضاع السائدة في المستعمرات الإنكليزية القديمة، وتنبه على خطر المبشرين الأوربيين، ومن أبرز كتاب هذه المرحلة: الروائي النيجيري چينوا آچبه Chinua Achebe، وتعد رواية «الأشياء تسقط منفصلة» (1958) من أفضل أعماله، وألكس لاگوما من جنوب إفريقية، وتعكس أعماله القصصية روح النضال ضد التفرقة العنصرية، والشاعر الأوغندي أوكوت بيتيك الذي خصص معظم قصائده الطويلة لانتقاد الواقع السياسي في بلاده بعد الاستقلال، والشاعر الغاني كايبر منسا الذي حاز جائزة المارغريت الأدبية (1970)، وغيرهم كثير من الكتاب والأدباء الذين يكتبون بالإنكليزية. ويضاف إلى هؤلاء مجموعة أخرى كبيرة من الأدباء الأفارقة الزنوج الذين وطنوا أمريكة أو استوطنوها ويعد أدبهم في عداد الأدب الأمريكي لدى معظم الدارسين.

الأدب الإفريقي المكتوب بالبرتغالية

مازال معظم النتاج الأدبي المكتوب بالبرتغالية بعيداً عن التناول، فلم يشتهر منه سوى أعمال قليلة، وكان الكتاب الأفارقة في البرتغال قد أسسوا عام 1948 تجمعاً أدبياً وبدا هؤلاء الكتاب متأثرين بأسلوب سنغور في مؤلفات ماريو ده أندراد Mário de Andrade الذي يعِّرف الشعر الإفريقي المكتوب بالبرتغالية في كتابه «مختارات من الشعر الزنجي بالبرتغالية» (1958) وأنطونيو جاسينتو وأوگوستينو نتو Agustino Neto وكذلك القصائد التي نظمها شعراء موزامبيق والرأس الأخضر وساو تومه. كما برز في ميدان القصة كل من خوسيه كرافيرينا Jose Craveirinaha ولورنزو مركيز ماپوتو Lourenco Marques Maputo ولويس برناردو هونوانا Luis Bernando Honwana.

وعلى العموم فإن مجمل النتاج الأدبي الإفريقي يُظهر أن جل الكتاب الأفارقة المعاصرين واقعون تحت تأثير تيارين قويين، يتمثل أولهما في محاولة تعميق الارتباط بجذورهم، والثاني في خلق لغة خاصة تتصف بالشمولية والعالمية في آن واحد كما يتبدى في أعمال جان بليا وفيليكس كوشورو وفرانسي بيبي ورونيه فيلومبي، وقد أشار الكاتب الكونغولي دونگالا إلى هذه الخصائص فذكر أن الأدب الإفريقي في إبان الاستعمار اتصف بالشمولية في مستوى القارة، ثم بدأت تتضح بعد الاستقلال الصفات النوعية المميزة لكل بلد أو مجموعة عرقية، بيد أن القاسم المشترك بين مختلف أدباء القارة إنما يتجلى في انشغال الأدباء الأفارقة بالتصدي للمشكلات الكثيرة التي تواجه هذه الدول الفتية، وتطبع آدابها بطابعها.

 

Publicité
Publicité
15 juillet 2021

الأدب الفرنسي

 

الأدب الفرنسي في القرن السابع عشر

Painting of Louis XIV, standing

 الأدب الفرنسي من القرن السابع عشر كـُتِب طوال Grand Siècle في فرنسا، الذي شمل عهود هنري الرابع من فرنسا، ووصاية ماري دى مديتشي، لويس الثالث عشر من فرنسا، ووصاية آن من النمسا (والحرب الأهلية المسماة فروند) وعهد لويس الرابع عشر من فرنسا. أدب تلك الفترة كثيراً ما يـُساوى بكلاسيكية العهد الطويل للويس الرابع عشر، والذي خلاله قادت فرنسا أوروبا في التطور السياسي والثقافي؛ واستطرد كتـّابه في المُثـُل الكلاسيكية للنظام والوضوح والتناسب والذوق السليم. في الواقع، شمل الأدب الفرنسي في القرن السابع عشر أكثر كثيراً من مجرد الأعمال الكلاسيكية الكبيرة لكل من جان راسين و مدام دى لا فايت.

أوج الكلاسيكية في الأدب الفرنسي 1643 - 1715

لم يكن أوج الأدب الكلاسيكي الفرنسي مواكباً تماماً لعصر لويس الرابع عشر، بل جاء إبان وزارة مازاران وفي الربيع المشرق لهذا العصر (1661-67)، قبل أن ينحي مارس (إله الحرب) ربات الفنون إلى المؤخرة. أما أول حافز للتفجر الأدبي فقد انبعث من تشجيع ريشليو للدراما والشعر، وجاء الثاني من الانتصارات الحربية التي حققها الفرنسيون في روكروا (1643) ولنز (1648)، وأنساب الثالث من انتصارات فرنسا الدبلوماسية في معاهدتي وستفاليا (1648) والبرانس (1659)، وأتى الرابع من اختلاط الأدباء بالنبلاء والمثقفات من النساء في الصالونات، والحافز الأخير فقط هو الرعاية التي حظي بها الأدب من الملك والحاشية. وكثير من روائع العهد-كرسائل بسكال (1656) وخواطره، وطرطوف موليير (1664) ومسرحية وليمة التمثال الحجري (1665) ومبغض الشر (1666)، وأمثال لاروشفوكو (1665) وهجائيات بوالو (1667) وأندروماك راسين (1667)-هذه كلها كتبت قبل 1667 بأقلام رجال نموا وترعرعوا أيام ريشليو ومازاران.

ومع ذلك كان لويس أسخى راعٍ للأدب عرفه التاريخ كله. فما مضت سنتان على تسلمه مقاليد الحكم (1662-63)-أي قبل هذه الآثار الأدبية كلها باستثناء اثنين منها-حتى طلب إلى كولبير وغيره أن يكلفوا أشخاصاً أكفاء بوضع قائمة بأسماء المؤلفين والأدباء والعلماء من أي بلد ممن يستحقون أن تقدم إليهم يد المعونة. ومن هذه القوائم تلقى خمسة وأربعون فرنسياً وخمسة عشر أجنبياً معاشات ملكية(1). وأدهش الأديبين الهولنديين هاينسيوس وفوسيوس، والفيزيائي الهولندي كرستيان هويگنز، والرياضي الفلورنسي ڤيڤياني، كثيراً غيرهم من الأجانب، أن يتلقوا رسائل من كولبير تنبئهم بقرار الملك الفرنسي أن يمنحهم معاشات إذا وافقت حكوماتهم. وبلغ بعض هذه المعاشات ثلاثة آلاف من الجنيهات في العام. فعاش بوالو عميد الشعر الرسمي، على معاشاته كأنه إقطاعي كبير، وترك لورثته 286.000 فرنك نقداً، وتلقى راسين 145.000 فرنك طوال عشر سنين بوصفه المؤرخ الملكي(2). ولعل المعاشات الدولية كان بعض الدافع إليها الرغبة في كسب أرباب الأقلام خارج فرنسا، أما الهبات في الداخل فهدفها إخضاع الفكر، كما أخضعت الصناعة والفن للتنسيق والإشراف الحكوميين. وتحقق هذا الهدف، فأخضع النشر كله لرقابة الدولة، وأذعن الذهن الفرنسي للإشراف الملكي على تعبيره المطبوع، باستثناء مقاومة متفرقة ضئيلة. يضاف إلى هذا أن الملك اقتنع بأن هذه الأقلام المأجورة ستتغنى بمديحه نثراً وشعراً وتخلف للتاريخ صورة مشرقة له. وقد بذلوا في هذا قصاراهم.

ولم يكتف لويس بصرف المعاشات للأدباء، بل إنه حماهم واحترمهم، ورفع مقامهم الاجتماعي، ورحب بهم في القصور. وقال مرة لبوالو "تذكر أنني سأفرد لك دائماً نصف ساعة من وقتي(3)". وربما كان ذوقه الأدبي مسرف الانحياز إلى الخصائص الكلاسيكية، خصائص النظام، والوقار، وجمال الشكل؛ ولكن هذه الفضائل لم تكن في رأيه معينة على توطيد الحكم فحسب بل على إضفاء النبل على فرنسا. وكان من بعض الوجوه متقدماً على شعبه وبلاطه في أحكامه الأدبية. وقد رأيناه يحمي موليير من غدر النبلاء ورجال الدين، وسنراه يشجع أشد شطحات راسين.

وعملاً باقتراح آخر من كولبير، وترسماً لخطى ريشليو مرة أخرى، أعلن لويس أنه الراعي الشخصي للأكاديمية الفرنسية؛ ورفعها إلى مرتبة المؤسسات الحكومية الكبرى، ووفر لها الأموال الكافية، وهيأ لها مكاناً في اللوفر. وأصبح كولبير نفسه عضواً فيها. ولما أمر عضو، كان إقطاعياً كبيراً في الوقت ذاته، بأن يوضع له مقعد وثير في الأكاديمية، أرسل كوليير في طلب تسعة وثلاثين مقعداً على شاكلته حفاظاً على المساواة في الكرامة قبل الفوارق الطبقية، وهكذا أصبحت "المقاعد الأربعون" مرادفاً للأكاديمية الفرنسية، وفي 1663 نظمت أكاديمية فرعية للنقوش والرسائل لتسجيل أحداث العهد.

واستوثق كوليير من أن "الخالدين الأربعين" يكسبون رواتبهم بالانتظام في الحضور وبالجهد في تصنيف القاموس. وكان مشروع هذا القاموس الذي بدأ في 1638 يتقدم في بطء شديد، حتى استطاع بواروبير أن يعبر أبجدياً عن أمنيته في طول العمر، "لقد أنفقوا ستة شهور وهم مشغولون بحرف F، فليت قدري يمهلني حتى حرف G(4)".

كانت خطة القاموس معقدة شديدة التفصيل، فقد رأت تتبع كل كلمة مسموح بها طوال التاريخ استعمالاتها وهجاءاتها، ويشفع هذا بالكثير من الشواهد التوضيحية، وهكذا انقضت ست وخمسون سنة بين بدء مشروع، ونشر القاموس لأول مرة (1694). ولقد أسرف في فحص لغة الشعب، والمهن، والفنون، وشذب رابليه، وآميو، ومونتن، ورفض مئات التعبيرات التي تعين على الحديث الحي. فذات المنطق، والدقة والوضوح الذي جعل من الهندسة المثل الأعلى لعلم القرن السابع عشر وفلسفته، وذات السلطان والانضباط اللذان هيمن بهما كولبير على الاقتصاد ولبرون على الفنون، وذات الوقار والتأنق اللذان سيطرا على بلاط الملك، وذات التشبث الكلاسيكي بالقواعد الذي شكل أسلوب بوسويه، وفينيلون، ولاروشفوكو، وراسين، وبوالو- كل أولئك أملى قاموس الأكاديمية.

ولقد نقح وأعيد نشره دورياً، وكافح للاحتفاظ بالنظام في جسم نام حي، وهاجمت قلعته الكلاسيكية المرة بع المرة، وكثيراً ما اقتحمتها، أخطاء الشعب، ومصطلحات العلوم، ورطانة الحرفيين، وعامية الشوارع؛ والقاموس، شأنه شأن التاريخ والحكومة، مزاج من القوى بين ثقل الكثرة وقوة القلة. وقد خسرت اللغة شيئاً من حيث الحيوية، وكسبت الكثير من حيث النقاء، والدقة، والأناقة، والمكانة. أنها لم تنجب شكسبيراً هائجاً مائجاً، ولكنها أصبحت أعظم لغات أوربا احتراماً، وغدت أداة الدبلوماسية، ولسان الأرستقراطيات. وظلت أوربا قرناً وأكثر تهفو إلى أن تكون فرنسية.

تذييل لكورني 1643 - 1684

بلغت اللغة أوجها في السهولة المرنة التي أتسم بها حوار موليير، وفي بلاغة كورنيي الطنانة، وفي تأنق راسين الشجي.

أما كورنيي فكان يبدو في ربيع أدبه-وهو في السابعة والثلاثين-حين اعتلى لويس العرس. وقد بدأ العهد بملهاة "الكذاب" التي رفعت نبرة الملهاة الفرنسية كما رفعت "السيد" نبرة المأساة. ثم راح يدفع إلى المسرح بالمآسي كل عام تقريباً بعد ذلك، رودوجون (1644)، وتيودور (1645)، وهيراقليوس (1646) ودن سانشو الأراجوني (1649) وأندروميد (1650) ونيكوميد (1651) وبرتاريت (1652). ولقي بعض هذه التمثيليات استقبالاً حسناً، ولكن حين تعاقبت كل منها سريعاً خلف سابقتها، وضح أن كورنيي يتعجل الإنتاج، وأن عصارة عبقريته آخذة في النضوب. وضاع ولعه بتصوير النبالة وسط بحر من الجدل، وهزمت بلاغته ذاتها باستمرارها دون توقف. قال موليير "إن لصديقي كورني رفيقاً يلهمه أروع شعر في الدنيا. ولكن يحدث أن يتركه رفيقه ليرعى شؤونه، وعندها يتعثر شر تعثر(5)." وقد لقيت "بارتاريت" من سوء الاستقبال ما حمل كورنيي على أن يعتزل المسرح ست سنوات (1653-59)، وتناول نقاده في سلسلة من "الفحوص"، وفي ثلاث أحاديث عن الشعر المسرحي. وقد دلت هذه الأحاديث على صعود موهبته النقدية بهبوط ملكته الشعرية، وأصبحت ينبوعاً للنقد الأدبي الحديث، واتخذها درايدن نماذج حين دافع عن شعره المتوسط الجودة في نثر رائع.

وفي 1659 ردت كورنيي إلى خشبة المسرح لفتة تلقاها من فوكيه. وظفرت مسرحيته "أوديب" ببعض الاستحسان عقب ثناء الملك الشاب عليها، ولكن المسرحيات التي تلتها-سرتوريوس (1662)، وسوفونيسب (1663)، وأوتون (1664)، وآجيسيلاس (1666) وأتيلا (1667)-هذه كلها كانت قاصرة قصوراً لم يستطع فونتنبيل إزاءه أن يصدق أن كاتبها هو كونيي؛ وقال بوالو في بيت ساخر: "بعد أجيسيلاس، وا أسفاه! ولكن بعد أتيلا، قف!" وزادت مدام هنرييتا الطين بلة، مع أنها كانت عادة آية العطف والرقة، حين دعت كلاً من كونيي وراسين، بعلم من كل، إلى أن يكتب تمثيلية في ذات الموضوع-وهو بيرنيس، الأميرة اليهودية التي وقع في حبها تيطس الإمبراطور القادم. ومثلت بيرنيس التي ألفها راسين فيالأوتيل دبورجون في 21 نوفمبر 1670 بعد خمسة أشهر تقريباً من موت هنرييتا، ولقيت نجاحاً كاملاً. أما مسرحية كونيي "تيطس وبرينيس" فقد مثلتها فرقة موليير بعد ذلك بأسبوع، ولم تلق غير استقبال فاتر: وحطم فشلها روح كونيي. وجرب حظه ثانية بمسرحيتي "بولشيري" (1672) وسورينا (1674)، ولكن الفشل كان نصيبهما أيضاً. وأنفق كورنيي بعد ذلك السنين العشر التي بقيت له من أجله في تقوى هادئة مكتئبة.

وكان متلافاً، مات فقيراً برغم ما أجرى عليه لويس الرابع عشر من معاش وما نفحه به من هبات، وقد قطع معاشه دون قصد أربع سنوات، فلجأ كونيي إلى كولبير، فأمر برده إليه، ولكنه انقطع ثانية بعد موت كولبير. فلما نمى الأمر إلى بوالو أعلم به لويس الرابع عشر، وعرض أن ينزل عن معاشه لكورنيي. ولكن الملك بادر بإرسال مائتي جنيه للشاعر العجوز، الذي مات بعدها بقليل (1684) بالغاً الثامنة والسبعين وأبنه في الأكاديمية الفرنسية مزاحمه الذي كان قد خلفه، ورفع المسرحية والشعر الفرنسيين إلى ذروة تاريخهما، والتأبين ما زال مذكوراً لما حوى من سماحة وبلاغة.

الأدب الفرنسي من القرن السابع عشر كـُتِب طوال Grand Siècle في فرنسا، الذي شمل عهود هنري الرابع من فرنسا، ووصاية ماري دى مديتشي، لويس الثالث عشر من فرنسا، ووصاية آن من النمسا (والحرب الأهلية المسماة فروند) وعهد لويس الرابع عشر من فرنسا. أدب تلك الفترة كثيراً ما يـُساوى بكلاسيكية العهد الطويل للويس الرابع عشر، والذي خلاله قادت فرنسا أوروبا في التطور السياسي والثقافي؛ واستطرد كتـّابه في المُثـُل الكلاسيكية للنظام والوضوح والتناسب والذوق السليم. في الواقع، شمل الأدب الفرنسي في القرن السابع عشر أكثر كثيراً من مجرد الأعمال الكلاسيكية الكبيرة لكل من جان راسين و مدام دى لا فايت.

عصر ريشيليو

بعد أن جمع ريشليو الشعراء والأدباء في الأكاديمية الفرنسية وسيج من حولهم، نظر بعينه اليقظة إلى الصحفيين. ففي مايو 1631 بدأ تيوفراست رينودو، بمعونة من الكردينال، نشر أول صحيفة فرنسية سميت فيما بعد »گازيت دو فرانس«. وكانت تظهر أسبوعياً في هيئة فرخ يطوي ثماني صفحات، وتنشر من الأنباء الرسمية ما يسمح به ريشليو أو يمدها به، وأضافت بعض صفحات من »الأخبار العادية«. وكان لويس الثالث عشر من كتابها المألوفين. ورد فيها على ناقدي الحكومة ودافع عن نفيه أمه، وكان أحياناً يأخذ الفقرات التي يكتبها بشخصه ليشرف على صف حروفها، ولا عجب فالمرء -حتى إذا كان ملكاً-يستهويه أن يجد كلامه مطبوعاً. وكانت الصحافة الفرنسية منذ بدايتها أداة دعاية- وفي هذه الحالة وسيلة لشرح سياسات الدولة للقلة القارئة. وسرعان ما فقد الناس ثقتهم في الغازيتة وفضلوا أن يشتروا الورقات البذيئة التي يبيعها في الطرق أجراء أعداء الكردينال. أما أروج نتاج العصر الأدبي فقصة رومانسية. كانت روايات الفروسية آخذة في الزوال، لا لمجرد تهكم سرفانتس وغيره من الكتاب عليها، بل لأن الاقطاع الذي خضع الآن للملكية، كان يفقد المزيد من امتيازاته ومكانته. وحل محل قصص الفروسية أيام ازدهارها روايات رومانسية أليمة عن الرغبة المعوقة. وهكذا قرأ كل من ألم بالقراءة وملك الفراغ في عهد لويس الثالث عشر رواية »آستريه« (1610-19) التي ألفها أونوريه دورفيه. أما عبقرية المؤلف فانبعثت من جرح أصاب حبه. ذلك ان زوجته، التي سميت ديانا بحق، آثرت عشرة الصيد على عشرة الزواج، فكانت تؤكل كلابها على مائدتها وتشاركها فراشها. وكانت تجهض كل سنة(124). وأعتكف أونوريه في ضيعته وأخفى سيرته الحزينة وراء رواية رومانسية رعوية. وقد وجد دواء الكلام هذا ناجعاً، فزاد روايته إلى 5.500 صفحة في خمسة مجلدات صدرت على فترات من 1610 إلى 1627. وفي قصة غرام الراعي كيلادون بالراعية آستريه نسمع صدى لا نهاية له لقصة مونتماريو »ديانا العاشقة« وقصتي سانازارو وسدني »أركاديا«، ولكن الصدى كان هنا شجياً، وكان للرعاة والراعيات كل جمال البلاط الفرنسي وزينته، وحققت اللغة كل مطالب ندوة الأوتيل درامبوبيه، ونافست تجارب العشق المتنوعة تجارب هنري الرابع، وأبهجت عبادة المرأة ربات الصالون اللائي جعلن الكتاب دستور سلوك الحب الأفلاطوني. هنا ذلك الينبوع الفوار الذي جرت منه الرومانسيات العاطفية التي كتبتها الآنسة سكودري، والأبيه بريفوست (انطوان بريفوست دجسيل)، وصموئيل رتشاردسون، وجان جاك روسو-الذي صرح بأنه كان يقرأ الكتاب مرة كل عام طوال أكثر حياته. وظل سادة القصور الفرنسية والألمانية والبولندية وسيداتها، قرابة قرن من الزمان، يتخذون أسماء »لاستريه« ويلعبون أدوارها، وكرس نصف النثر المكتوب في فرنسا نفسه للرومانس.

أما النصف الآخر فاشتمل على بعض النثر الجدير بالذكر. فكانت »رسائل« جان لوي جي دبالزاك (1614 وما بعدها) في حقيقتها مقالات، قصد بها أن تعجب »المتحذلقات«، وشاركت فوجيلا وماليرب في تنقية اللغة، وساعدت على إعطاء النثر الفرنسي شكل العصر الكلاسيكي ومنطقه... أما بيير دبوردبي دبرانتوم، الذي عاش حياة مرحة في الجيش والبلاط، فقد ترك عند موته (1614) حزمة من المذكرات تفصل في ذوق غراميات النساء الفرنسيات، وفضائل كاترين مديتشي، وجمال ماري ستيورات، وظرف مارجريت فالوا، ومن المؤسف أن أروع قصصه لا يمكن التحقق من صحة نسبتها إليه. وكان يرى »أنه لا يحسن بالمرء أن يشيخ وهو في ذات الجحر، وما من إنسان شجاع فعل هذا قط، وعلى المرء أن يغامر بجرأة في جميع النواحي، في الحب كما في الحرب«. وفي لحظة أكثر حكمة اعترف بأن »أعظم ما ينعم الله به علينا في زواجنا هو الذرية الصالحة لا التسري«... وأما جاك أوجست دتو، القاضي ومستشار الدولة أيام صديقه هنري الرابع فقد ساعد في صياغة مرسوم نانت والمفاوضة على إصداره، وكرس نصف حياته لكتابة »تاريخ عصره« (1604-8)، وهو كتاب يتميز بعمق الدرس، وبالحياد والشجاعة في دمغ مذبحة القديس برتلميو لأنها »تفجر للجنون لا نظير له في تاريخ أي أمة«... وألف الدوق صلى، في شيخوخته وبمساعدة سكرتيره، كتابه المشهور »مذكرات عن الاقتصاديات الداخلية والسياسية والحربية، الحكيمة، الملكية، لهنري الأكبر، الذي أهداه »إلى فرنسا«، وإلى جميع الجنود الطيبين، وإلى جميع الشعب الفرنسي«. وفي آخر سني لويس الثالث عشر بدأت جماعة من اليسوعيين الفلمنكيين يتزعمهم جان دبولان نشر كتاب »اكتا سانكتورم« (أعمال القديسين) الذي أورد في نقد حذر سير القديسين حسب الترتيب الذي تخلهم به الكنيسة الكاثوليكية. وتابعت الجماعة هذا الجهد في حماسة على الرغم مما اعترى جمعية اليسوعيين من غير، حتى بلغت مجلدات الكتاب خمسة وستين عام 1910. وأحتج عليه بعض مروجي الأساطير، ولكن الكتاب مفخرة لعلم أعظم الطوائف الدينية تفقها. وأخيراً يجب أن ندرج في هذه القائمة للمرة الثانية ذلك الرجل المدهش كلي الوجود، ريشيلو، الذي غمس قلمه في كل ينبوع أدبي وترك لنا »مذكراته« - وفيها شيء من التحيز للكردينال، ولكن مكانها رفيع في ذلك الرتل الرائع من المذكرات الفرنسية التي لا ضريب لها في أي لغة اخرى. ولم يكثر صغار الشعراء مثل هذه الكثرة من قبل. فما زال الفرنسيون الأوفياء يقرءون، ولو في المدارس، تيوفيل دفيو، وفنسان فواتور، و أونورا دبويل، مركيز راكان. وقد جعلت غراميات تيوفيل الإباحية وشكوكه الفاضحة منه »فيون« عصره، وقد حكم عليه بالحرق ثم خفف الحكم إلى النفي. أما ذكاء فواتور المرح فقد جعله أكبر ظرفاء الأوتيل درامبوييه (وقد أوشكنا أن نقول أكبر ساخريه). وحين وعظ بوسويه وهو بعد في الثانية عشرة من عمره ذلك الصالون في منتصف الليل، قال فواتور أنه لم يسمع في حياته عظة تلقى مبكرة متأخرة كهذه.

وشرف هذه العهود الملكية شاعران كبيران. أما فرانسوا ماليرب فقد شرح المبدأ القائل بأن واجب كل عصر أن يرفض الماضي ويعكسه لكي يستمتع بنفسه. وكان رونزار العظيم لا يزال يغني في شباب ماليرب، وكان هو وجماعة البليارد قد هذبوا الشعر الفرنسي بتوجيهه صوب المثل والموضوعات الكلاسيكية، ولكن خلفاءهما كانوا الآن يهدهدون فرنسا وخليلاتهم بسونيتات حافلة بالألفاظ الأثرية، والعبارات الخيالية، والشحطات الإيطالية، والتقديمات والتأخيرات السقيمة، والتلميحات الغامضة، والأساطير العويصة. واستقر رأي ماليرب على أن الشعر الفرنسي قد أتخم بهذا كله.

وقد درس هذا الشاعر، الذي ولد في كان (1555)، في بازل وهايدلبرج، وأنفق سنوات في الأسفار، وكان قد بلغ الخمسين حين وصل إلى البلاط الفرنسي. وقد شق طريقه اليه برغم وقاحاته وكفرياته، وأصبح الشاعر الأثير لدى هنري الاكبر، ولكن هذا على أي حال اعطاه »من التحيات أكثر مما أعطاه من المال(125)«. وعاش يبيع شعره لمن يدفع أغلى الاثمان، وروج لبضاعته بالإطاحة بمن سبقوه. فقد أعلن الحرب - كما أعلنتها متحذلقات صالون رامبوييه - على الألفاظ التي تشتم منها الحلافة الريفية أو عمليات البدن الأقل شاعرية، فحرم التقديمات والتأخيرات، والألفاظ الغامضة، والتعبيرات العامية، والكلمات الريفية والغسقونية (شق على هذا الملك) والحشو، وتنافر النغمات، واللحن، والدخيل واللاتيني والفني من الالفاظ، والجواز الشعري، والقوافي الناقصة. وقال إنه يجب أن يكون منذ الآن جلال في الافكار، وبساطة ووضوح في التعبير، وتوافق في الايقاع، واتساق في الاستعارات، وترتيب في العرض، ومنطق في العبارة، والكتابة الجيدة يجب تنشر عبيرها وأن ترتاح لها الأذن، والتقاء الحرفين الصوتيين جريمة سمعية، ومرض تنفسي. وكان ماليرب يجرب أشعاره على آذان خادمه(126). فلنستنشق عبير إحدى قصائده - وهي »تعزية«، وجهها لصديق فجع �

15 juillet 2021

الأدب الفرنسي

 

الأدب الفرنسي في القرن السابع عشر

Painting of Louis XIV, standing

 الأدب الفرنسي من القرن السابع عشر كـُتِب طوال Grand Siècle في فرنسا، الذي شمل عهود هنري الرابع من فرنسا، ووصاية ماري دى مديتشي، لويس الثالث عشر من فرنسا، ووصاية آن من النمسا (والحرب الأهلية المسماة فروند) وعهد لويس الرابع عشر من فرنسا. أدب تلك الفترة كثيراً ما يـُساوى بكلاسيكية العهد الطويل للويس الرابع عشر، والذي خلاله قادت فرنسا أوروبا في التطور السياسي والثقافي؛ واستطرد كتـّابه في المُثـُل الكلاسيكية للنظام والوضوح والتناسب والذوق السليم. في الواقع، شمل الأدب الفرنسي في القرن السابع عشر أكثر كثيراً من مجرد الأعمال الكلاسيكية الكبيرة لكل من جان راسين و مدام دى لا فايت.

أوج الكلاسيكية في الأدب الفرنسي 1643 - 1715

لم يكن أوج الأدب الكلاسيكي الفرنسي مواكباً تماماً لعصر لويس الرابع عشر، بل جاء إبان وزارة مازاران وفي الربيع المشرق لهذا العصر (1661-67)، قبل أن ينحي مارس (إله الحرب) ربات الفنون إلى المؤخرة. أما أول حافز للتفجر الأدبي فقد انبعث من تشجيع ريشليو للدراما والشعر، وجاء الثاني من الانتصارات الحربية التي حققها الفرنسيون في روكروا (1643) ولنز (1648)، وأنساب الثالث من انتصارات فرنسا الدبلوماسية في معاهدتي وستفاليا (1648) والبرانس (1659)، وأتى الرابع من اختلاط الأدباء بالنبلاء والمثقفات من النساء في الصالونات، والحافز الأخير فقط هو الرعاية التي حظي بها الأدب من الملك والحاشية. وكثير من روائع العهد-كرسائل بسكال (1656) وخواطره، وطرطوف موليير (1664) ومسرحية وليمة التمثال الحجري (1665) ومبغض الشر (1666)، وأمثال لاروشفوكو (1665) وهجائيات بوالو (1667) وأندروماك راسين (1667)-هذه كلها كتبت قبل 1667 بأقلام رجال نموا وترعرعوا أيام ريشليو ومازاران.

ومع ذلك كان لويس أسخى راعٍ للأدب عرفه التاريخ كله. فما مضت سنتان على تسلمه مقاليد الحكم (1662-63)-أي قبل هذه الآثار الأدبية كلها باستثناء اثنين منها-حتى طلب إلى كولبير وغيره أن يكلفوا أشخاصاً أكفاء بوضع قائمة بأسماء المؤلفين والأدباء والعلماء من أي بلد ممن يستحقون أن تقدم إليهم يد المعونة. ومن هذه القوائم تلقى خمسة وأربعون فرنسياً وخمسة عشر أجنبياً معاشات ملكية(1). وأدهش الأديبين الهولنديين هاينسيوس وفوسيوس، والفيزيائي الهولندي كرستيان هويگنز، والرياضي الفلورنسي ڤيڤياني، كثيراً غيرهم من الأجانب، أن يتلقوا رسائل من كولبير تنبئهم بقرار الملك الفرنسي أن يمنحهم معاشات إذا وافقت حكوماتهم. وبلغ بعض هذه المعاشات ثلاثة آلاف من الجنيهات في العام. فعاش بوالو عميد الشعر الرسمي، على معاشاته كأنه إقطاعي كبير، وترك لورثته 286.000 فرنك نقداً، وتلقى راسين 145.000 فرنك طوال عشر سنين بوصفه المؤرخ الملكي(2). ولعل المعاشات الدولية كان بعض الدافع إليها الرغبة في كسب أرباب الأقلام خارج فرنسا، أما الهبات في الداخل فهدفها إخضاع الفكر، كما أخضعت الصناعة والفن للتنسيق والإشراف الحكوميين. وتحقق هذا الهدف، فأخضع النشر كله لرقابة الدولة، وأذعن الذهن الفرنسي للإشراف الملكي على تعبيره المطبوع، باستثناء مقاومة متفرقة ضئيلة. يضاف إلى هذا أن الملك اقتنع بأن هذه الأقلام المأجورة ستتغنى بمديحه نثراً وشعراً وتخلف للتاريخ صورة مشرقة له. وقد بذلوا في هذا قصاراهم.

ولم يكتف لويس بصرف المعاشات للأدباء، بل إنه حماهم واحترمهم، ورفع مقامهم الاجتماعي، ورحب بهم في القصور. وقال مرة لبوالو "تذكر أنني سأفرد لك دائماً نصف ساعة من وقتي(3)". وربما كان ذوقه الأدبي مسرف الانحياز إلى الخصائص الكلاسيكية، خصائص النظام، والوقار، وجمال الشكل؛ ولكن هذه الفضائل لم تكن في رأيه معينة على توطيد الحكم فحسب بل على إضفاء النبل على فرنسا. وكان من بعض الوجوه متقدماً على شعبه وبلاطه في أحكامه الأدبية. وقد رأيناه يحمي موليير من غدر النبلاء ورجال الدين، وسنراه يشجع أشد شطحات راسين.

وعملاً باقتراح آخر من كولبير، وترسماً لخطى ريشليو مرة أخرى، أعلن لويس أنه الراعي الشخصي للأكاديمية الفرنسية؛ ورفعها إلى مرتبة المؤسسات الحكومية الكبرى، ووفر لها الأموال الكافية، وهيأ لها مكاناً في اللوفر. وأصبح كولبير نفسه عضواً فيها. ولما أمر عضو، كان إقطاعياً كبيراً في الوقت ذاته، بأن يوضع له مقعد وثير في الأكاديمية، أرسل كوليير في طلب تسعة وثلاثين مقعداً على شاكلته حفاظاً على المساواة في الكرامة قبل الفوارق الطبقية، وهكذا أصبحت "المقاعد الأربعون" مرادفاً للأكاديمية الفرنسية، وفي 1663 نظمت أكاديمية فرعية للنقوش والرسائل لتسجيل أحداث العهد.

واستوثق كوليير من أن "الخالدين الأربعين" يكسبون رواتبهم بالانتظام في الحضور وبالجهد في تصنيف القاموس. وكان مشروع هذا القاموس الذي بدأ في 1638 يتقدم في بطء شديد، حتى استطاع بواروبير أن يعبر أبجدياً عن أمنيته في طول العمر، "لقد أنفقوا ستة شهور وهم مشغولون بحرف F، فليت قدري يمهلني حتى حرف G(4)".

كانت خطة القاموس معقدة شديدة التفصيل، فقد رأت تتبع كل كلمة مسموح بها طوال التاريخ استعمالاتها وهجاءاتها، ويشفع هذا بالكثير من الشواهد التوضيحية، وهكذا انقضت ست وخمسون سنة بين بدء مشروع، ونشر القاموس لأول مرة (1694). ولقد أسرف في فحص لغة الشعب، والمهن، والفنون، وشذب رابليه، وآميو، ومونتن، ورفض مئات التعبيرات التي تعين على الحديث الحي. فذات المنطق، والدقة والوضوح الذي جعل من الهندسة المثل الأعلى لعلم القرن السابع عشر وفلسفته، وذات السلطان والانضباط اللذان هيمن بهما كولبير على الاقتصاد ولبرون على الفنون، وذات الوقار والتأنق اللذان سيطرا على بلاط الملك، وذات التشبث الكلاسيكي بالقواعد الذي شكل أسلوب بوسويه، وفينيلون، ولاروشفوكو، وراسين، وبوالو- كل أولئك أملى قاموس الأكاديمية.

ولقد نقح وأعيد نشره دورياً، وكافح للاحتفاظ بالنظام في جسم نام حي، وهاجمت قلعته الكلاسيكية المرة بع المرة، وكثيراً ما اقتحمتها، أخطاء الشعب، ومصطلحات العلوم، ورطانة الحرفيين، وعامية الشوارع؛ والقاموس، شأنه شأن التاريخ والحكومة، مزاج من القوى بين ثقل الكثرة وقوة القلة. وقد خسرت اللغة شيئاً من حيث الحيوية، وكسبت الكثير من حيث النقاء، والدقة، والأناقة، والمكانة. أنها لم تنجب شكسبيراً هائجاً مائجاً، ولكنها أصبحت أعظم لغات أوربا احتراماً، وغدت أداة الدبلوماسية، ولسان الأرستقراطيات. وظلت أوربا قرناً وأكثر تهفو إلى أن تكون فرنسية.

تذييل لكورني 1643 - 1684

بلغت اللغة أوجها في السهولة المرنة التي أتسم بها حوار موليير، وفي بلاغة كورنيي الطنانة، وفي تأنق راسين الشجي.

أما كورنيي فكان يبدو في ربيع أدبه-وهو في السابعة والثلاثين-حين اعتلى لويس العرس. وقد بدأ العهد بملهاة "الكذاب" التي رفعت نبرة الملهاة الفرنسية كما رفعت "السيد" نبرة المأساة. ثم راح يدفع إلى المسرح بالمآسي كل عام تقريباً بعد ذلك، رودوجون (1644)، وتيودور (1645)، وهيراقليوس (1646) ودن سانشو الأراجوني (1649) وأندروميد (1650) ونيكوميد (1651) وبرتاريت (1652). ولقي بعض هذه التمثيليات استقبالاً حسناً، ولكن حين تعاقبت كل منها سريعاً خلف سابقتها، وضح أن كورنيي يتعجل الإنتاج، وأن عصارة عبقريته آخذة في النضوب. وضاع ولعه بتصوير النبالة وسط بحر من الجدل، وهزمت بلاغته ذاتها باستمرارها دون توقف. قال موليير "إن لصديقي كورني رفيقاً يلهمه أروع شعر في الدنيا. ولكن يحدث أن يتركه رفيقه ليرعى شؤونه، وعندها يتعثر شر تعثر(5)." وقد لقيت "بارتاريت" من سوء الاستقبال ما حمل كورنيي على أن يعتزل المسرح ست سنوات (1653-59)، وتناول نقاده في سلسلة من "الفحوص"، وفي ثلاث أحاديث عن الشعر المسرحي. وقد دلت هذه الأحاديث على صعود موهبته النقدية بهبوط ملكته الشعرية، وأصبحت ينبوعاً للنقد الأدبي الحديث، واتخذها درايدن نماذج حين دافع عن شعره المتوسط الجودة في نثر رائع.

وفي 1659 ردت كورنيي إلى خشبة المسرح لفتة تلقاها من فوكيه. وظفرت مسرحيته "أوديب" ببعض الاستحسان عقب ثناء الملك الشاب عليها، ولكن المسرحيات التي تلتها-سرتوريوس (1662)، وسوفونيسب (1663)، وأوتون (1664)، وآجيسيلاس (1666) وأتيلا (1667)-هذه كلها كانت قاصرة قصوراً لم يستطع فونتنبيل إزاءه أن يصدق أن كاتبها هو كونيي؛ وقال بوالو في بيت ساخر: "بعد أجيسيلاس، وا أسفاه! ولكن بعد أتيلا، قف!" وزادت مدام هنرييتا الطين بلة، مع أنها كانت عادة آية العطف والرقة، حين دعت كلاً من كونيي وراسين، بعلم من كل، إلى أن يكتب تمثيلية في ذات الموضوع-وهو بيرنيس، الأميرة اليهودية التي وقع في حبها تيطس الإمبراطور القادم. ومثلت بيرنيس التي ألفها راسين فيالأوتيل دبورجون في 21 نوفمبر 1670 بعد خمسة أشهر تقريباً من موت هنرييتا، ولقيت نجاحاً كاملاً. أما مسرحية كونيي "تيطس وبرينيس" فقد مثلتها فرقة موليير بعد ذلك بأسبوع، ولم تلق غير استقبال فاتر: وحطم فشلها روح كونيي. وجرب حظه ثانية بمسرحيتي "بولشيري" (1672) وسورينا (1674)، ولكن الفشل كان نصيبهما أيضاً. وأنفق كورنيي بعد ذلك السنين العشر التي بقيت له من أجله في تقوى هادئة مكتئبة.

وكان متلافاً، مات فقيراً برغم ما أجرى عليه لويس الرابع عشر من معاش وما نفحه به من هبات، وقد قطع معاشه دون قصد أربع سنوات، فلجأ كونيي إلى كولبير، فأمر برده إليه، ولكنه انقطع ثانية بعد موت كولبير. فلما نمى الأمر إلى بوالو أعلم به لويس الرابع عشر، وعرض أن ينزل عن معاشه لكورنيي. ولكن الملك بادر بإرسال مائتي جنيه للشاعر العجوز، الذي مات بعدها بقليل (1684) بالغاً الثامنة والسبعين وأبنه في الأكاديمية الفرنسية مزاحمه الذي كان قد خلفه، ورفع المسرحية والشعر الفرنسيين إلى ذروة تاريخهما، والتأبين ما زال مذكوراً لما حوى من سماحة وبلاغة.

الأدب الفرنسي من القرن السابع عشر كـُتِب طوال Grand Siècle في فرنسا، الذي شمل عهود هنري الرابع من فرنسا، ووصاية ماري دى مديتشي، لويس الثالث عشر من فرنسا، ووصاية آن من النمسا (والحرب الأهلية المسماة فروند) وعهد لويس الرابع عشر من فرنسا. أدب تلك الفترة كثيراً ما يـُساوى بكلاسيكية العهد الطويل للويس الرابع عشر، والذي خلاله قادت فرنسا أوروبا في التطور السياسي والثقافي؛ واستطرد كتـّابه في المُثـُل الكلاسيكية للنظام والوضوح والتناسب والذوق السليم. في الواقع، شمل الأدب الفرنسي في القرن السابع عشر أكثر كثيراً من مجرد الأعمال الكلاسيكية الكبيرة لكل من جان راسين و مدام دى لا فايت.

عصر ريشيليو

بعد أن جمع ريشليو الشعراء والأدباء في الأكاديمية الفرنسية وسيج من حولهم، نظر بعينه اليقظة إلى الصحفيين. ففي مايو 1631 بدأ تيوفراست رينودو، بمعونة من الكردينال، نشر أول صحيفة فرنسية سميت فيما بعد »گازيت دو فرانس«. وكانت تظهر أسبوعياً في هيئة فرخ يطوي ثماني صفحات، وتنشر من الأنباء الرسمية ما يسمح به ريشليو أو يمدها به، وأضافت بعض صفحات من »الأخبار العادية«. وكان لويس الثالث عشر من كتابها المألوفين. ورد فيها على ناقدي الحكومة ودافع عن نفيه أمه، وكان أحياناً يأخذ الفقرات التي يكتبها بشخصه ليشرف على صف حروفها، ولا عجب فالمرء -حتى إذا كان ملكاً-يستهويه أن يجد كلامه مطبوعاً. وكانت الصحافة الفرنسية منذ بدايتها أداة دعاية- وفي هذه الحالة وسيلة لشرح سياسات الدولة للقلة القارئة. وسرعان ما فقد الناس ثقتهم في الغازيتة وفضلوا أن يشتروا الورقات البذيئة التي يبيعها في الطرق أجراء أعداء الكردينال. أما أروج نتاج العصر الأدبي فقصة رومانسية. كانت روايات الفروسية آخذة في الزوال، لا لمجرد تهكم سرفانتس وغيره من الكتاب عليها، بل لأن الاقطاع الذي خضع الآن للملكية، كان يفقد المزيد من امتيازاته ومكانته. وحل محل قصص الفروسية أيام ازدهارها روايات رومانسية أليمة عن الرغبة المعوقة. وهكذا قرأ كل من ألم بالقراءة وملك الفراغ في عهد لويس الثالث عشر رواية »آستريه« (1610-19) التي ألفها أونوريه دورفيه. أما عبقرية المؤلف فانبعثت من جرح أصاب حبه. ذلك ان زوجته، التي سميت ديانا بحق، آثرت عشرة الصيد على عشرة الزواج، فكانت تؤكل كلابها على مائدتها وتشاركها فراشها. وكانت تجهض كل سنة(124). وأعتكف أونوريه في ضيعته وأخفى سيرته الحزينة وراء رواية رومانسية رعوية. وقد وجد دواء الكلام هذا ناجعاً، فزاد روايته إلى 5.500 صفحة في خمسة مجلدات صدرت على فترات من 1610 إلى 1627. وفي قصة غرام الراعي كيلادون بالراعية آستريه نسمع صدى لا نهاية له لقصة مونتماريو »ديانا العاشقة« وقصتي سانازارو وسدني »أركاديا«، ولكن الصدى كان هنا شجياً، وكان للرعاة والراعيات كل جمال البلاط الفرنسي وزينته، وحققت اللغة كل مطالب ندوة الأوتيل درامبوبيه، ونافست تجارب العشق المتنوعة تجارب هنري الرابع، وأبهجت عبادة المرأة ربات الصالون اللائي جعلن الكتاب دستور سلوك الحب الأفلاطوني. هنا ذلك الينبوع الفوار الذي جرت منه الرومانسيات العاطفية التي كتبتها الآنسة سكودري، والأبيه بريفوست (انطوان بريفوست دجسيل)، وصموئيل رتشاردسون، وجان جاك روسو-الذي صرح بأنه كان يقرأ الكتاب مرة كل عام طوال أكثر حياته. وظل سادة القصور الفرنسية والألمانية والبولندية وسيداتها، قرابة قرن من الزمان، يتخذون أسماء »لاستريه« ويلعبون أدوارها، وكرس نصف النثر المكتوب في فرنسا نفسه للرومانس.

أما النصف الآخر فاشتمل على بعض النثر الجدير بالذكر. فكانت »رسائل« جان لوي جي دبالزاك (1614 وما بعدها) في حقيقتها مقالات، قصد بها أن تعجب »المتحذلقات«، وشاركت فوجيلا وماليرب في تنقية اللغة، وساعدت على إعطاء النثر الفرنسي شكل العصر الكلاسيكي ومنطقه... أما بيير دبوردبي دبرانتوم، الذي عاش حياة مرحة في الجيش والبلاط، فقد ترك عند موته (1614) حزمة من المذكرات تفصل في ذوق غراميات النساء الفرنسيات، وفضائل كاترين مديتشي، وجمال ماري ستيورات، وظرف مارجريت فالوا، ومن المؤسف أن أروع قصصه لا يمكن التحقق من صحة نسبتها إليه. وكان يرى »أنه لا يحسن بالمرء أن يشيخ وهو في ذات الجحر، وما من إنسان شجاع فعل هذا قط، وعلى المرء أن يغامر بجرأة في جميع النواحي، في الحب كما في الحرب«. وفي لحظة أكثر حكمة اعترف بأن »أعظم ما ينعم الله به علينا في زواجنا هو الذرية الصالحة لا التسري«... وأما جاك أوجست دتو، القاضي ومستشار الدولة أيام صديقه هنري الرابع فقد ساعد في صياغة مرسوم نانت والمفاوضة على إصداره، وكرس نصف حياته لكتابة »تاريخ عصره« (1604-8)، وهو كتاب يتميز بعمق الدرس، وبالحياد والشجاعة في دمغ مذبحة القديس برتلميو لأنها »تفجر للجنون لا نظير له في تاريخ أي أمة«... وألف الدوق صلى، في شيخوخته وبمساعدة سكرتيره، كتابه المشهور »مذكرات عن الاقتصاديات الداخلية والسياسية والحربية، الحكيمة، الملكية، لهنري الأكبر، الذي أهداه »إلى فرنسا«، وإلى جميع الجنود الطيبين، وإلى جميع الشعب الفرنسي«. وفي آخر سني لويس الثالث عشر بدأت جماعة من اليسوعيين الفلمنكيين يتزعمهم جان دبولان نشر كتاب »اكتا سانكتورم« (أعمال القديسين) الذي أورد في نقد حذر سير القديسين حسب الترتيب الذي تخلهم به الكنيسة الكاثوليكية. وتابعت الجماعة هذا الجهد في حماسة على الرغم مما اعترى جمعية اليسوعيين من غير، حتى بلغت مجلدات الكتاب خمسة وستين عام 1910. وأحتج عليه بعض مروجي الأساطير، ولكن الكتاب مفخرة لعلم أعظم الطوائف الدينية تفقها. وأخيراً يجب أن ندرج في هذه القائمة للمرة الثانية ذلك الرجل المدهش كلي الوجود، ريشيلو، الذي غمس قلمه في كل ينبوع أدبي وترك لنا »مذكراته« - وفيها شيء من التحيز للكردينال، ولكن مكانها رفيع في ذلك الرتل الرائع من المذكرات الفرنسية التي لا ضريب لها في أي لغة اخرى. ولم يكثر صغار الشعراء مثل هذه الكثرة من قبل. فما زال الفرنسيون الأوفياء يقرءون، ولو في المدارس، تيوفيل دفيو، وفنسان فواتور، و أونورا دبويل، مركيز راكان. وقد جعلت غراميات تيوفيل الإباحية وشكوكه الفاضحة منه »فيون« عصره، وقد حكم عليه بالحرق ثم خفف الحكم إلى النفي. أما ذكاء فواتور المرح فقد جعله أكبر ظرفاء الأوتيل درامبوييه (وقد أوشكنا أن نقول أكبر ساخريه). وحين وعظ بوسويه وهو بعد في الثانية عشرة من عمره ذلك الصالون في منتصف الليل، قال فواتور أنه لم يسمع في حياته عظة تلقى مبكرة متأخرة كهذه.

وشرف هذه العهود الملكية شاعران كبيران. أما فرانسوا ماليرب فقد شرح المبدأ القائل بأن واجب كل عصر أن يرفض الماضي ويعكسه لكي يستمتع بنفسه. وكان رونزار العظيم لا يزال يغني في شباب ماليرب، وكان هو وجماعة البليارد قد هذبوا الشعر الفرنسي بتوجيهه صوب المثل والموضوعات الكلاسيكية، ولكن خلفاءهما كانوا الآن يهدهدون فرنسا وخليلاتهم بسونيتات حافلة بالألفاظ الأثرية، والعبارات الخيالية، والشحطات الإيطالية، والتقديمات والتأخيرات السقيمة، والتلميحات الغامضة، والأساطير العويصة. واستقر رأي ماليرب على أن الشعر الفرنسي قد أتخم بهذا كله.

وقد درس هذا الشاعر، الذي ولد في كان (1555)، في بازل وهايدلبرج، وأنفق سنوات في الأسفار، وكان قد بلغ الخمسين حين وصل إلى البلاط الفرنسي. وقد شق طريقه اليه برغم وقاحاته وكفرياته، وأصبح الشاعر الأثير لدى هنري الاكبر، ولكن هذا على أي حال اعطاه »من التحيات أكثر مما أعطاه من المال(125)«. وعاش يبيع شعره لمن يدفع أغلى الاثمان، وروج لبضاعته بالإطاحة بمن سبقوه. فقد أعلن الحرب - كما أعلنتها متحذلقات صالون رامبوييه - على الألفاظ التي تشتم منها الحلافة الريفية أو عمليات البدن الأقل شاعرية، فحرم التقديمات والتأخيرات، والألفاظ الغامضة، والتعبيرات العامية، والكلمات الريفية والغسقونية (شق على هذا الملك) والحشو، وتنافر النغمات، واللحن، والدخيل واللاتيني والفني من الالفاظ، والجواز الشعري، والقوافي الناقصة. وقال إنه يجب أن يكون منذ الآن جلال في الافكار، وبساطة ووضوح في التعبير، وتوافق في الايقاع، واتساق في الاستعارات، وترتيب في العرض، ومنطق في العبارة، والكتابة الجيدة يجب تنشر عبيرها وأن ترتاح لها الأذن، والتقاء الحرفين الصوتيين جريمة سمعية، ومرض تنفسي. وكان ماليرب يجرب أشعاره على آذان خادمه(126). فلنستنشق عبير إحدى قصائده - وهي »تعزية«، وجهها لصديق فجع بموت ابنته: »ولكنها كانت ربيبة هذه الدنيا، حيث تنتهي أجمل الاشياء أتعس نهاية. وردة عاشت كما تعيش الورود، إشراقة صبح ... إن للموت أحكاماً لا شبيه لها، وعبثاً نتوسل إليه، فهذا القاسي يصم أذنيه ويتركنا نصرخ. يخضع لناموسنا الفقير في كوخه الحقير، ولا يقف الحارس الساهر على أبواب اللوفر سداً بينه وبين ملوكنا(127)«.

على أن تطبيق ماليرب كان أقل فاعلية من مبادئه؛ وعانت أشعاره برودة الصقيع من قواعده ولم يرجى دبالزاك في شعر ماليرب إلا نثرا جيداً، وكان يحاول في ذلك الوقت إصلاح النثر. ولكن الأوتيل دارمبوييه احتضنه، واعتنقت الأكاديمية مبادئه. وورثها بوالو أساساً للأسلوب الكلاسيكي، وقد أصبحت مدى قرنين قميصاً مقدساً صارماً من شعر وزرد يلبسه شعراء فرنسا الغنائيون. وانتفخ ماليرب في شيخوخته حتى أصبح إماماً حقيقياً للشعر، وحجة يستفتى في مسائل اللغة والاسلوب؛ وحياه بعض المعجبين بوصفه »أبلغ إنسان في جميع العصور«. وقد وافق على أن »ما يكتبه ماليرب سيخلد إلى الابد(128)«. وحين كان على فراش الموت (1628) أيقظ نفسه من غيبوبته الاخيرة ليوبخ ممرضته على استعمالها فرنسية غير سليمة(129). أما ماتوران رينييه فقد رأى فيه شاعراً مملاً، وتجاهل قواعده، وأطلق الشعر كما أطلقه فيون بخارا مندفعاً من حر المواخير. هذا الرجل الذي نذر للقسوسية ضيع نفسه في فينوسبرج حتى شاخ، وشاب قرناه وهو بعد في شرخ شبابه. ففي الحادية والثلاثين عجزه النقرس والزهري. وكان لا يزال يجد »كل امرأة تروقني«، ولكنهن كن أكثر منه تأنقاً في الاختيار. وقد كتب بعضاً من أقوى الشعر في اللغة، فيه حديث مستهتر عن الجنس، وهجو وحشي، ومباراة مع هوراس في الشكل ومع دوفينال في المرارة، وحركة تزخر بالأشخاص أو الأماكن بما يحس أو يرى. وقد هزأ بصفائية »المتحذلقات« اللغوية وصرامة ماليرب الكلاسيكية، وبدا له أن الحرارة المشبوبة من شعلة باطنة أهم للشعر من التمسك بأصول النحو والبلاغة والعروض. هنا في فجر العصر الكلاسيكي نشطت الرومانسية. حتى العلم والفلسفة نالا منه ما يستحقان من قصاص وتوبيخ على تبجحاتهما:

Cquote2.png »أيها الفلاسفة الحالمون، تكلموا في استعلاء، وحلقوا في النجوم وأنتم لا تتحركون من الارض، واجعلوا السماوات كلها ترقص على لحنكم، وزنوا أحاديثكم في ميزانها ... واحملوا مصباحاً في زوايا الطبيعة ...واعرفوا من يعطي الزهور هذا اللون البديع ... وحلوا ألغاز الأرض والسماء، إن عقلكم يخدعكم كما تخدعكم عيونكم(130)«. وفي عام 1609 أصبح شاعر البلاط لهنري الرابع. وبعد أربع سنوات مات وقد أضناه فسقه المشجي، بعد أن كتب قبريته. »لقد عشت دون ما تفكير، تاركاً نفسي أسير في رفق ووفق قانون الطبيعة الطيب، ولا أدري لم يفكر الموت فيّ، وأنا الذي لم أتنازل إلى التفكير فيه(131)«. Cquote1.png

 

أوج الكلاسيكية في الأدب الفرنسي 1643 - 1715

لم يكن أوج الأدب الكلاسيكي الفرنسي مواكباً تماماً لعصر لويس الرابع عشر، بل جاء إبان وزارة مازاران وفي الربيع المشرق لهذا العصر (1661-67)، قبل أن ينحي مارس (إله الحرب) ربات الفنون إلى المؤخرة. أما أول حافز للتفجر الأدبي فقد انبعث من تشجيع ريشليو للدراما والشعر، وجاء الثاني من الانتصارات الحربية التي حققها الفرنسيون في روكروا (1643) ولنز (1648)، وأنساب الثالث من انتصارات فرنسا الدبلوماسية في معاهدتي وستفاليا (1648) والبرانس (1659)، وأتى الرابع من اختلاط الأدباء بالنبلاء والمثقفات من النساء في الصالونات، والحافز الأخير فقط هو الرعاية التي حظي بها الأدب من الملك والحاشية. وكثير من روائع العهد-كرسائل بسكال (1656) وخواطره، وطرطوف موليير (1664) ومسرحية وليمة التمثال الحجري (1665) ومبغض الشر (1666)، وأمثال لاروشفوكو (1665) وهجائيات بوالو (1667) وأندروماك راسين (1667)-هذه كلها كتبت قبل 1667 بأقلام رجال نموا وترعرعوا أيام ريشليو ومازاران.

ومع ذلك كان لويس أسخى راعٍ للأدب عرفه التاريخ كله. فما مضت سنتان على تسلمه مقاليد الحكم (1662-63)-أي قبل هذه الآثار الأدبية كلها باستثناء اثنين منها-حتى طلب إلى كولبير وغيره أن يكلفوا أشخاصاً أكفاء بوضع قائمة بأسماء المؤلفين والأدباء والعلماء من أي بلد ممن يستحقون أن تقدم إليهم يد المعونة. ومن هذه القوائم تلقى خمسة وأربعون فرنسياً وخمسة عشر أجنبياً معاشات ملكية(1). وأدهش الأديبين الهولنديين هاينسيوس وفوسيوس، والفيزيائي الهولندي كرستيان هويگنز، والرياضي الفلورنسي ڤيڤياني، كثيراً غيرهم من الأجانب، أن يتلقوا رسائل من كولبير تنبئهم بقرار الملك الفرنسي أن يمنحهم معاشات إذا وافقت حكوماتهم. وبلغ بعض هذه المعاشات ثلاثة آلاف من الجنيهات في العام. فعاش بوالو عميد الشعر الرسمي، على معاشاته كأنه إقطاعي كبير، وترك لورثته 286.000 فرنك نقداً، وتلقى راسين 145.000 فرنك طوال عشر سنين بوصفه المؤرخ الملكي(2). ولعل المعاشات الدولية كان بعض الدافع إليها الرغبة في كسب أرباب الأقلام خارج فرنسا، أما الهبات في الداخل فهدفها إخضاع الفكر، كما أخضعت الصناعة والفن للتنسيق والإشراف الحكوميين. وتحقق هذا الهدف، فأخضع النشر كله لرقابة الدولة، وأذعن الذهن الفرنسي للإشراف الملكي على تعبيره المطبوع، باستثناء مقاومة متفرقة ضئيلة. يضاف إلى هذا أن الملك اقتنع بأن هذه الأقلام المأجورة ستتغنى بمديحه نثراً وشعراً وتخلف للتاريخ صورة مشرقة له. وقد بذلوا في هذا قصاراهم.

ولم يكتف لويس بصرف المعاشات للأدباء، بل إنه حماهم واحترمهم، ورفع مقامهم الاجتماعي، ورحب بهم في القصور. وقال مرة لبوالو "تذكر أنني سأفرد لك دائماً نصف ساعة من وقتي(3)". وربما كان ذوقه الأدبي مسرف الانحياز إلى الخصائص الكلاسيكية، خصائص النظام، والوقار، وجمال الشكل؛ ولكن هذه الفضائل لم تكن في رأيه معينة على توطيد الحكم فحسب بل على إضفاء النبل على فرنسا. وكان من بعض الوجوه متقدماً على شعبه وبلاطه في أحكامه الأدبية. وقد رأيناه يحمي موليير من غدر النبلاء ورجال الدين، وسنراه يشجع أشد شطحات راسين.

وعملاً باقتراح آخر من كولبير، وترسماً لخطى ريشليو مرة أخرى، أعلن لويس أنه الراعي الشخصي للأكاديمية الفرنسية؛ ورفعها إلى مرتبة المؤسسات الحكومية الكبرى، ووفر لها الأموال الكافية، وهيأ لها مكاناً في اللوفر. وأصبح كولبير نفسه عضواً فيها. ولما أمر عضو، كان إقطاعياً كبيراً في الوقت ذاته، بأن يوضع له مقعد وثير في الأكاديمية، أرسل كوليير في طلب تسعة وثلاثين مقعداً على شاكلته حفاظاً على المساواة في الكرامة قبل الفوارق الطبقية، وهكذا أصبحت "المقاعد الأربعون" مرادفاً للأكاديمية الفرنسية، وفي 1663 نظمت أكاديمية فرعية للنقوش والرسائل لتسجيل أحداث العهد.

واستوثق كوليير من أن "الخالدين الأربعين" يكسبون رواتبهم بالانتظام في الحضور وبالجهد في تصنيف القاموس. وكان مشروع هذا القاموس الذي بدأ في 1638 يتقدم في بطء شديد، حتى استطاع بواروبير أن يعبر أبجدياً عن أمنيته في طول العمر، "لقد أنفقوا ستة شهور وهم مشغولون بحرف F، فليت قدري يمهلني حتى حرف G(4)".

كانت خطة القاموس معقدة شديدة التفصيل، فقد رأت تتبع كل كلمة مسموح بها طوال التاريخ استعمالاتها وهجاءاتها، ويشفع هذا بالكثير من الشواهد التوضيحية، وهكذا انقضت ست وخمسون سنة بين بدء مشروع، ونشر القاموس لأول مرة (1694). ولقد أسرف في فحص لغة الشعب، والمهن، والفنون، وشذب رابليه، وآميو، ومونتن، ورفض مئات التعبيرات التي تعين على الحديث الحي. فذات المنطق، والدقة والوضوح الذي جعل من الهندسة المثل الأعلى لعلم القرن السابع عشر وفلسفته، وذات السلطان والانضباط اللذان هيمن بهما كولبير على الاقتصاد ولبرون على الفنون، وذات الوقار والتأنق اللذان سيطرا على بلاط الملك، وذات التشبث الكلاسيكي بالقواعد الذي شكل أسلوب بوسويه، وفينيلون، ولاروشفوكو، وراسين، وبوالو- كل أولئك أملى قاموس الأكاديمية.

ولقد نقح وأعيد نشره دورياً، وكافح للاحتفاظ بالنظام في جسم نام حي، وهاجمت قلعته الكلاسيكية المرة بع المرة، وكثيراً ما اقتحمتها، أخطاء الشعب، ومصطلحات العلوم، ورطانة الحرفيين، وعامية الشوارع؛ والقاموس، شأنه شأن التاريخ والحكومة، مزاج من القوى بين ثقل الكثرة وقوة القلة. وقد خسرت اللغة شيئاً من حيث الحيوية، وكسبت الكثير من حيث النقاء، والدقة، والأناقة، والمكانة. أنها لم تنجب شكسبيراً هائجاً مائجاً، ولكنها أصبحت أعظم لغات أوربا احتراماً، وغدت أداة الدبلوماسية، ولسان الأرستقراطيات. وظلت أوربا قرناً وأكثر تهفو إلى أن تكون فرنسية.

تذييل لكورني 1643 - 1684

بلغت اللغة أوجها في السهولة المرنة التي أتسم بها حوار موليير، وفي بلاغة كورنيي الطنانة، وفي تأنق راسين الشجي.

أما كورنيي فكان يبدو في ربيع أدبه-وهو في السابعة والثلاثين-حين اعتلى لويس العرس. وقد بدأ العهد بملهاة "الكذاب" التي رفعت نبرة الملهاة الفرنسية كما رفعت "السيد" نبرة المأساة. ثم راح يدفع إلى المسرح بالمآسي كل عام تقريباً بعد ذلك، رودوجون (1644)، وتيودور (1645)، وهيراقليوس (1646) ودن سانشو الأراجوني (1649) وأندروميد (1650) ونيكوميد (1651) وبرتاريت (1652). ولقي بعض هذه التمثيليات استقبالاً حسناً، ولكن حين تعاقبت كل منها سريعاً خلف سابقتها، وضح أن كورنيي يتعجل الإنتاج، وأن عصارة عبقريته آخذة في النضوب. وضاع ولعه بتصوير النبالة وسط بحر من الجدل، وهزمت بلاغته ذاتها باستمرارها دون توقف. قال موليير "إن لصديقي كورني رفيقاً يلهمه أروع شعر في الدنيا. ولكن يحدث أن يتركه رفيقه ليرعى شؤونه، وعندها يتعثر شر تعثر(5)." وقد لقيت "بارتاريت" من سوء الاستقبال ما حمل كورنيي على أن يعتزل المسرح ست سنوات (1653-59)، وتناول نقاده في سلسلة من "الفحوص"، وفي ثلاث أحاديث عن الشعر المسرحي. وقد دلت هذه الأحاديث على صعود موهبته النقدية بهبوط ملكته الشعرية، وأصبحت ينبوعاً للنقد الأدبي الحديث، واتخذها درايدن نماذج حين دافع عن شعره المتوسط الجودة في نثر رائع.

وفي 1659 ردت كورنيي إلى خشبة المسرح لفتة تلقاها من فوكيه. وظفرت مسرحيته "أوديب" ببعض الاستحسان عقب ثناء الملك الشاب عليها، ولكن المسرحيات التي تلتها-سرتوريوس (1662)، وسوفونيسب (1663)، وأوتون (1664)، وآجيسيلاس (1666) وأتيلا (1667)-هذه كلها كانت قاصرة قصوراً لم يستطع فونتنبيل إزاءه أن يصدق أن كاتبها هو كونيي؛ وقال بوالو في بيت ساخر: "بعد أجيسيلاس، وا أسفاه! ولكن بعد أتيلا، قف!" وزادت مدام هنرييتا الطين بلة، مع أنها كانت عادة آية العطف والرقة، حين دعت كلاً من كونيي وراسين، بعلم من كل، إلى أن يكتب تمثيلية في ذات الموضوع-وهو بيرنيس، الأميرة اليهودية التي وقع في حبها تيطس الإمبراطور القادم. ومثلت بيرنيس التي ألفها راسين فيالأوتيل دبورجون في 21 نوفمبر 1670 بعد خمسة أشهر تقريباً من موت هنرييتا، ولقيت نجاحاً كاملاً. أما مسرحية كونيي "تيطس وبرينيس" فقد مثلتها فرقة موليير بعد ذلك بأسبوع، ولم تلق غير استقبال فاتر: وحطم فشلها روح كونيي. وجرب حظه ثانية بمسرحيتي "بولشيري" (1672) وسورينا (1674)، ولكن الفشل كان نصيبهما أيضاً. وأنفق كورنيي بعد ذلك السنين العشر التي بقيت له من أجله في تقوى هادئة مكتئبة.

وكان متلافاً، مات فقيراً برغم ما أجرى عليه لويس الرابع عشر من معاش وما نفحه به من هبات، وقد قطع معاشه دون قصد أربع سنوات، فلجأ كونيي إلى كولبير، فأمر برده إليه، ولكنه انقطع ثانية بعد موت كولبير. فلما نمى الأمر إلى بوالو أعلم به لويس الرابع عشر، وعرض أن ينزل عن معاشه لكورنيي. ولكن الملك بادر بإرسال مائتي جنيه للشاعر العجوز، الذي مات بعدها بقليل (1684) بالغاً الثامنة والسبعين وأبنه في الأكاديمية الفرنسية مزاحمه الذي كان قد خلفه، ورفع المسرحية والشعر الفرنسيين إلى ذروة تاريخهما، والتأبين ما زال مذكوراً لما حوى من سماحة وبلاغة.

 

راسين 1639 - 1699

ولد مثل موليير في أسرة متوسطة. وكان أبوه مراقباً لاحتكار الدولة للملح في لافيرتي-ميلون، على نحو خمسين ميلاً شمال شرقي باريس، وكانت أمه ابنة محام في فيلييه-كوتريه. وقد ماتت عام 1641 وجان لم يبلغ الثانية بعد؛ وبعد سنة مات أبوه، فكفل الصبي جده لأبيه. وكان في الأسرة نزوع قوي إلى الجانسنية، فقد التحقت جدة وعمة لراسين بأخوات البو-رويال، وأرسل جان نفسه حين ناهز السادسة عشرة إلى "المدرسة الصغيرة" التي يديرها "المتوحدون" وقد تلقى عنهم تعليماً مركزاً في الدين واليونانية-وهما مؤثران قدر لهما أن يسيطرا الواحد بعد الآخر على حياته. واستهوته تمثيليات سوفوكليس ويوريبيديس فترجم بعضها بنفسه. ثم تعلم شيئاً من الفلسفة ومزيداً من الثقافة الكلاسيكية في كلية آركور بباريس، وأكتشف المفاتن الخفية للأنوثة الشابة، الجديد منها والمستعمل. وعاش عامين على شاطئ الجزانز أوجستان مع ابن عمه نيكولا فيتار، الذي كان يتردد بين البور-رويال والمسرح. واستمع راسين إلى عدة تمثيليات، وكتب تمثيلية، وعرضها على موليير. ولم تكن من الجودة بحيث تستحق الإخراج، ولكن موليير نفحه بمائة جنيه ذهبي، وشجعه على أن يعيد الكرة. واستقر رأي راسين على اتخاذ الأدب حرفة له.

وهال هذا الجنون أقرباءه، وراعهم ما نمى إليهم من أنباء غرامياته، فأرسلوه إلى أوزيس بجنوبي فرنسا (1659) مساعداً لعم له كان كاهنا لكتدارئية، فوعده بوظيفة كنسية ذات وقف إن

15 juillet 2021

الأدب الإغريقي

الأدب الإغريقي

 

شعر الملاحم عند اليونان

في القرن التاسع أو العاشر قبل الميلاد، كان شاعر ضرير يتنقَّل بين المدن اليونانية في آسيا الصغرى يُنشد الأناشيد، ويُرتل الأساطير التي صِيغت في قوالب الشعر وقوافيه، ذلك هو هومر أو «هوميروس» الذي يُقال عنه إنه مُنشئ الإلياذة والأوذيسة.٤٥ وقد يكون القول صحيحًا، وقد يكون اسم «هوميروس» رمزًا لطائفة من الشعراء أخذ كلٌّ منهم بنصيبه في خلق هاتَين الآيتين. وأيًّا ما كان، فقد كان القدماء يروون هذا الشعر على أنه لشاعرٍ واحد يتنازَع شرَف مولِده كثير من البلدان.

ولسْنا ندري من أمر هوميروس في حياته الخاصة شيئًا؛ إذ إنه لمَّا أتيح لمؤرِّخي اليونان ونُقَّادهم في القرنَين الخامس والرابع قبل الميلاد أن يتعقَّبوا أشخاص التاريخ ويقفوا على أصولهم ليرووا صحيح أخبارهم، كان هوميروس بين أيديهم أسطورةً يعجزون عن تحقيقها كما هو اليوم أسطورة عند الباحث الحديث، فلم يكن اليونان في عصر أفلاطون وأرسطو يعلمون عن شعرائهم السابقين ما نعلمه نحن عن شعرائنا، لأن شعراءنا قريبو العهد بنا، وإذا تجاوزْنا الأوَّلين فقد كانوا يعيشون في عهد الكتابة، وفي خمسة القرون الأخيرة كانوا يعيشون في عصور مطبعةٍ ونشر. أما اليونان في عصر بركليز فلم يكن لهم بالطباعة عهد، وكان عليهم أن يحفظوا أشعار هوميروس عن ظهر قلب. والأرجح أنَّ تلك الأشعار لم تتَّخذ وضعَها وترتيبها كما هي اليوم إلا في القرن السادس قبل الميلاد.

ولم تنشأ رِيبة في نسبة هذه الأشعار إلى شاعر مُعين اسمه هوميروس إلا في أواخر القرن الثامن عشر، وذلك حين أثار هذه المشكلة العالِم الألماني، «فردريك وُلْف»وهي مشكلة لن تجدَ لها حلًّا حاسمًا.

وبعدُ، فما الإلياذة؟ وما الأوذيسة؟

الإلياذة

نشبت بين الآلهة خصومة إذ ألقت إلهة الشقاق «إيريس»بين الأضياف — في حفلة عرس — تفاحةً نُقِشت عليها هذه الكلمات «إلى ربة الجمال.» وكان بين الحضور ثلاثُ إلهات هُن: «جوُنُو» و«فينوس»و«مينرْفا» وكل منهن تزعم لنفسها السيادة في دولة الجمال، وترى أن لها الحق في التفاحة؛ فقرر كبير الآلهة «جُوبتَرْ»٥١ أن يكون «بارسْ»بن «برْيام» ملك طروادة حكمًا بين الإلَهات الثلاث؛ فحكم بارس لِفِينوس٥٤ وأعطاها التفَّاحة؛ فتعرَّض بذلك لسخط الإلهتَين الأُخريين.
وحدث بعد ذلك بقليلٍ أن أبحر «بارس» إلى بلاد اليونان ونزل ضيفًا على «مِينِلاوُس»٥٥ ملك إسبرطة، فأكرم الملك ضيافته؛ ولكنَّ الضيف أساء لمُضيفه؛ إذ أحبَّ زوجته «هِلِنْ»٥٦ وهي امرأة بارعة الجمال وأغراها أن تفرَّ معه من خِدْر زوجها إلى بلدِه طروادة، فثارت لذلك ثائرة «منلاوس» وأهاب بأخدانه ملوك اليونان وأبطالها أن يُعاوِنوه على ردِّ زوجته الهاربة؛ فلبَّى الدعوة من هؤلاء. يُوليسيز،٥٧ وأَخِيل،٥٨ وأَجاكس،٥٩ وديَومِدْ،٦٠ ونِسْطور،٦١ وأَجَامِمْنون،٦٢ أخو منلاوس، وكلهم من الأبطال الفُحول، واختير أجاممنون قائدًا للجيش اليوناني، وكان على رأس الجيش الطروادي «هكتُور» وهو الأبن الأكبر لبريام ملك طروادة وزوج أنْدْرُومَاك.٦٣ وانقسم الآلهة في القتال مُعسكرين، كل جماعة تُناصر فريقًا من المُتحاربين. أما «جونو» و«مينرفا» فكانتا بالطبع في جانب اليونان لتنتقِما من «باريس» وأهله. وأما «فينوس» و«مارس» — وهو إله الحرب — فكانا في جانب طروادة، ومال «نِبْتيون» إلى جانب اليونان، ووقف «جُوبتَر» و«أَبُولو» على الحياد ولبثت الحرب نحو تِسع سنين، ثم حدث خلاف بين أخيل وأجاممنون، ومن هذا الخلاف تبدأ قصة الإلياذة.

يُحدِّثنا الشاعر في السطور الأولى من ملحمته أن الجيش اليوناني الرابض أمام طروادة، قضى عليه الآلهة أن تفتِك به الأمراض، ففشا فيه الطاعون، فلمَّا سُئل العرَّاف عن تعليل هذا القضاء، وأجاب بأنَّ «أبولو» قد رماهم بحِرابه المسمومة، لأنَّ أجاممنون قد أبى أن يفدي ابنة كاهِنِه لمَّا وقعت أسيرةً في إحدى المدن التي فتحها اليونان فقسَّموا بينهم نساءها وأسلابها؛ فما إن سمِع أجاممنون جواب العرَّاف حتى ردَّ للكاهن ابنتَه، واستبدل بها «برْيِسِيس» التي كانت نصيب «أخيل» من السبايا؛ فلم يسَعْ أخيل إلا أن يقفل راجعًا إلى سفينته. وهو يكاد يتميَّز من الغيظ، وأعلن أنه لن يُحارب في صفوف اليونان بعد، وطلَبَ إلى أُمِّه ثيتس — وهي من عرائس البحر — أن تصُبَّ نِقمتها هي المُستبد الغاصِب، ودعا «جوف» أن ينتقِم له من قائد اليونان وجُنده، فأبى «جوف» أن يُنزل باليونانيين شرًّا لأنهم في حِمى زوجته.

وتضرَّعت «ثیتس» إلى «جوبتر» أن يكون لابنها أخيل عونًا على عدوِّه أجاممنون، فأوحى جوبتر إلى أجاممنون حلمًا زائفًا يزعُم له أن طروادة قد آنَ لها أن تسقُط في يدَيه، فعليه أن يُبادر بالهجوم. وانخدع أجاممنون بالحلم، وصفَّ جند اليونان في حَومة الوغى استعدادًا للقتال، إلَّا أخيل وأتباعه الذين غادروا المعمعة غاضبين. وتقدَّم جُند طروادة للقاء اليونان، وعندئذٍ تحدَّى «منلاوس» عدوَّه «بارس» أن يُبارزه بمُفرده، إذ كان هذان الفارسان هما سبب القتال، مُذ اختطف الثاني زوجة الأول، وأُعلنت الهدنة بين الجيشين حتى تتمَّ المبارزة بين القائدَين، فطوَّح بارس برُمحه ولكنه لم ينفُذ في درع مُقاتله، وتأهَّب منلاوس واستعان بجوف ثم:

هَزَّ رُمحه ورماه، فاخترم به درع بارس،
وكانت الضربة قوية فأطاحت بالفارس،
وتمزَّقت عليه الدروع، لكنه اجتنَب أن يُذيقه المَنون،
فأتْبع هذه الطعنة سيفًا سلَّه من غِمده الفِضي،
ورفع السيف ثُم هوى به على العدوِّ فوق الناصية؛
فتحطَّم السيف وانتثرت أجزاؤه من كفِّه البائسة،

 الأوذيسية

سقطت طروادة في أيدي الإغريق، واستعاد «منلاوس» زوجته «هِلن» وعاد بها إلى إسبرطة، كما عاد سائر أبطال الإغريق إلى أوطانهم، إلا «يُولِيسيز» الذي لبِثَت زوجته «بنلوب»٧١ وابنه «تلماكس»٧٢ يرقُبان عودتَه إلى وطنه «إثاكا».٧٣
لم يعُد يوليسيز مع من عاد لأنه خاطر وغامر، والأوذيسية هي قصة هذه المغامرات والمُخاطرات. ومن الممكن تقسيمها إلى ستة أجزاء كل جزءٍ يشتمل على أربع أغان؛ أما الجزء الأول فيدور حول ما لقيَه «تلماكس» من عنتٍ مع الذين جاءوا يخطبون أمَّهُ «بنلوب» ليظفروا بها وبمالها، وفي هذا الجزء وصفٌ لرحلة تلماكس إلى «بيلوس»٧٤ وإلى أسبرطة يتسقَّط الأنباء عن أبيه المفقود. ومضت عشر سنوات بعد سقوط طروادة، ولم تأتِ الأنباء بجديدٍ عن يوليسيز وما عسى أن يكون قد أصابَه من شرٍّ أو خير.
كان يوليسيز في عودته مع جماعةٍ من أتباعه، وبينا هُم في طريق العودة إلى «إثاكا» زلَّ رجاله زلةً فادحة وذبحوا ثيرةً يملكها أحد الأرباب، فأودَوا بحياتهم إلى التهلُكة، وبقي يوليسيز وحيدًا، فقذَفَه البحر إلى جزيرةٍ منعزلة كانت مسكنًا لإحدى عرائس البحر، وهي «كالبسو»،٧٥ وأُعْجبت كالبسو بيوليسيز وأحبَّتْه وأرادت أن تتزوَّج منه؛ فأخذت تُغريه بالزواج وبِنِسيان زوجته، ولم تشُكَّ لحظةً في أنَّ الرجل لا يُمانع أن يستبدل بزوجةٍ فانية زوجةً من عرائس البحر الخالدة، لكن خاب رجاؤها ورفض يوليسيز زواجها، فأمسكتْهُ على جزيرتها زمانًا طويلًا لعلَّه يقلع عن عنادِه فلم يفعل؛ فاجتمع الآلهة على الأولمب ودبَّروا عودة يوليسيز إلى وطنه؛ عودة الرجل الذي:
جاب قَصِيَّ البلاد،
بعد أن أتى على طروادة المقدَّسة وقوَّض أركانها،
وطوَّف حول عالَمٍ تباينَتْ فيه الشعوب

 الشعر الغنائي عند اليونان

منذ أقدم العصور كان ببلاد اليونان قصص شعبي كما كان بها غناء شعبي، ونحن لا نستطيع أن ندَّعي أسبقية أحدِها في الظهور إلا أن يكون ذلك على سبيل الفروض التي لا تستنِد إلَّا إلى الحقائق النفسية العامة. وهنا قد نستطيع أن نُجازف فنقول بأسبقية الغناء لتأصُّله في طبائع البشر، ثم لأنَّ القصص لا ينشأ إلا بتراخي الزمن، وبعد اجتماع أحداثٍ تعود الشعوب أو القبائل إلى ذِكرها.

ذلك إذا نظرنا إلى هذين النوعَين كأدبٍ شعبي، وأما إذا نظرنا إليهما كأدبٍ فني فالثابت تاريخيًّا هو أسبقية القصص الشعري على الغناء. وتلك ظاهرة يُمكن تفسيرها من الناحية التاريخية إذ يمكن تتبُّع المراحل التي انقرض فيها شِعر الملاحم وحلَّ محلَّه الشعر الغنائي.

ويمكن القول بوجهٍ عام إنَّ الشعر القصصي الفني (شعر الملاحم) قد سيطر على بلاد اليونان ثلاثة قرون (من القرن الحادي عشر قبل الميلاد إلى القرن الثامن قبل الميلاد)، ثُم سيطر الشعر الغنائي ثلاثة قرون أخرى (من الثامن قبل الميلاد إلى الخامس). وأخيرًا سيطر الشعر التمثيلي خلال القرنين الخامس والرابع، ومنذ القرن الرابع يمكن القول بأن عصور الإنتاج الحقيقي قد انتهت بغزو المَقدونيين لبلاد اليونان وتحطيمهم لاستقلال مُدُنها.

برجوعِنا إلى الإلياذة والأوذيسية نجد إشاراتٍ إلى الشعر الغنائي؛ ففي مُناسبات كثيرة يُحدثنا هوميروس عن ترديد الجند لنغمات البيان Pean، وهو نشيد دِيني كانوا يُمجِّدون به أبولو أو غيره من آلهتهم. نذكر لذلك مثلًا غناء جُند «أخيل» عندما قَتل قائدهم هكتور أشجع أبطال طروادة. «والآن يا أبناء الآكيين لنعُدْ على نغمات البيان إلى سُفننا الجوفاء ساحبين تلك الجثة. لقد كسَبْنا مجدًا عظيمًا. لقد قتلْنا هكتور الإلهي، هكتور الذي كان أهل طروادة يُجلُّونه كإله.» وكذلك يُشير الشاعر إلى أغاني الرثاء المُسمَّاة باليونانية «ترينوس».٨٩ وذلك عندما بكى صديقه بتروكلس، وعندما بكى بريام وبكت هيكوبا ولدَها هكتور من أعلى الأسوار، وكذلك عندما بكتْهُ جوقة من النساء المُحترفات أولًا ثم سيدات المنزل: هيكوبا وهيلانة وأندروماك ثانيًا بعد أن ردَّ أخيل جثته إلى أهله، بل وفي الأوذيسية يُحدِّثنا هوميروس عن شاعرٍ غنائي مُتجوِّل هو ديمودوكس٩٠ الذي كان يُطرب الملوك في قصورهم بشعرٍ مرِح، فيه إقبال على الحياة.

وإذن، فالنصوص تؤيد وجود شعر غنائي مُعاصر للشعر القصصي أو سابق عليه، ومع ذلك لم يحرِص هوميروس على أنْ يصُوغ ذلك الشعر، ولا أنْ يرويه، وإنما انصرف جُهده إلى كتابة الشعر القصصي. لأنَّ الشعر الغنائي كان نواةً لم تكتمِل.

ثُم في القرون الثلاثة التي سبقت الحروب الميدية (من القرن الثامن قبل الميلاد إلى القرن الخامس) تطوَّرت بلاد اليونان من الناحيتَين السياسية والعقلية، فقد اختفت الملكيَّات القديمة التي تغنَّى بها هوميروس، وكثُرَت الغزوات والهجرات التي قلبَتْ أوضاع الحياة، وعلى أنقاض الملكية نشأت حكوماتٌ أرستقراطية وحكومات ديمقراطية. ومن حينٍ إلى حين نُظم استبدادية، وفي وسط تلك الحركات والانقلابات أُرهفَ الإحساس، ونمَتِ الشخصية، وتيقَّظ التفكير يبغي إخضاع الأشياء للعقل أو فَهم قوانينها، أو العبارة عن تأثيرها في النفوس.

Publicité
Publicité
Archives
Publicité
Pages
أدب و نقد
Publicité